محاظرات سماحة السيد هاشم الهاشمي12
alzahra2 :: الفئة الأولى :: قسم السيره :: مقالات مقتبسة
صفحة 1 من اصل 1
محاظرات سماحة السيد هاشم الهاشمي12
ما بين يديك أخي العزيز وأختي الفاضلة النص المقارب لما تم بثه على قناة الأنوار الفضائية في شهر جمادى الأولى 1428هـ وما بعده بمناسبة شهادة فاطمة الزهراء عليها السلام ضمن برنامج "الصديقة الشهيدة" الذي بلغت حلقاته 15 حلقة تتناول سيرة الزهراء (ع) مما قبل الميلاد إلى ما بعد الاستشهاد وهذا ما جاء في الحلقة الثاني عشر وعنوانها:الزهراء (ع) من الزواج وحتى شهادة النبي (ص) - القسم الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير أبي القاسم محمد وعلى أهل بيته الغر الميامين لاسيما بقية الله في الأرضين عجل الله تعالى فرجه وسهل مخرجه.
تطرقت في الحلقة الماضية عن القسم الثاني من سيرة الزهراء (ع) والممتد من زواجها المبارك وحتى شهادة النبي (ص)، وقلنا أن السمة الحاكمة على هذه الفترة هو قلة الظهور العلني للزهراء (ع) وحرصها على التزام البيت (ع) وأنه كانت هناك بعض الحالات الاستثنائية التي جاءت لظروف وأسباب خاصة، وفي هذه الحلقة سنتناول ما كانت تفعله الزهراء (ع) في بيتها.
ماذا كانت تفعل فاطمة (ع) في بيت أمير المؤمنين (ع)؟
كانت (ع) في أعظم العبادات بين التهجد والتضرع والصلاة، وبين إدارة أمر البيت ورعاية أولادها عليهم السلام ضمن مسؤولية محددة ومقسمة بينها وبين أمير المؤمنين (ع)، وقد روى الكليني في الكافي بسند صحيح عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (ع) قال:
«كان أمير المؤمنين (ع) يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة (ع) تطحن وتعجن وتخبز». (الكافي ج5 ص86 ح1)
وبعض الروايات تبين الحد الفاصل في مسؤولية كل واحد من أمير المؤمنين (ع) وفاطمة الزهراء (ع)، ألا وهو باب البيت، في دلالة على مدى حرص الزهراء (ع) على التقليل من الظهور العلني في المحافل العامة ومدى اهتمامها بمراعاة جانب الستر والحياء، وقد روى العياشي عن الإمام الباقر (ع) قال:
«إن فاطمة ضمنت لعلي (ع) عمل البيت والعجين والخبز وقم البيت، وضمن لها علي ما كان خلف الباب من نقل الحطب وأن يجيء بالطعام». (تفسير العياشي ج1 ص303 ح680/42)
ولا منافاة بين روايتي الكليني والعياشي من جهة الكنس والقم حيث جعلته إحدى الروايتين من عمل أمير المؤمنين (ع) والأخرى من عمل فاطمة الزهراء (ع)، إذ من الجائز أن يكون ما يقوم به أمير المؤمنين (ع) من الكنس داخل البيت من باب التطوع والمساعدة، أو يكون عند باب البيت من خارجه.
زهد الزهراء (ع) وعدم الطبخ في البيت
كانت فاطمة الزهراء (ع) تعيش حالة الزهد في الدنيا، إذ كانت تمر بها فترة طويلة ولم تتذوق فيها ما كان دارجا تناوله في البيوت الأخرى، فالبيت الذي لايطبخ فيه الطعام مدة شهر كامل يعني انعدام أدنى درجات جوانب المعيشة البسيطة فيه، وقد روي الراوندي في كتابه "الدعوات" عن سويد بن غفلة قال:
"أصابت عليّاً (ع) شدّة، فأتت فاطمة (ع) رسول الله (ص) فدقّت الباب، فقال: «أسمع حسّ حبيبتي بالباب يا أم أيمن قومي وانظري! ففتحت لها الباب فدخلت، فقال (ص): لقد جئتِنا في وقت ما كنتِ تأتينا في مثله؟ فقالت فاطمة: يا رسول الله ما طعام الملائكة عند ربنا؟ فقال: التحميد، فقالت: ما طعامنا؟ فقال رسول الله (ص): والذي نفسي بيده ما اقتبس في بيوت آل محمد شهرٍ ناراً، وأعلمك خمس كلمات علّمنيهن جبرائيل (ع) قالت: يا رسول الله ما الخمس كلمات؟ قال: (يا رب الأولين والآخرين، يا ذا القوة المتين ويا راحم المساكين ويا أرحم الراحمين). فرجعتْ فلما أبصرها علي (ع) قال: بأبي أنت وأمي ما ورائك يا فاطمة؟
قالت: ذهبت للدنيا وجئت للآخرة! فقال علي: خير أمامك خير أمامكِ، أو خير أيامك، خير أيامك (على نسخة أخرى) ». (عوالم سيدة النساء ص386)
ولم تكن حالة الزهد مفروضة عليها، إذ لا يقال لمن وقع في الفقر قهرا ولم يتمكن من تحصيل الثروة والمال أنه زاهد، ولكن الزهراء (ع) وبعلها أمير المؤمنين (ع) كانا قادرين على تحصيل المال الموجب للعيش بتنعم، ومع ذلك لم يفعلا ترفعا عن الدنيا وموجبات الانشغال بما هو الأقرب إلى الله عز وجل.
إيثار الآخرين
الرواية السابقة تأكيد على إيثار الجانب المعنوي وذكر الله عز وجل على تذوق الجوع وحرمان الطعام، ولم يكن هذا الجانب حالة استثنائية في حياة الزهراء (ع)، بل كان يمثل الأصل والوضع المألوف والصفة الملازمة لها، وقد أنزل الله عز وجل فيها وفي بعلها وابنيها قرآنا يتلى على مسامع الناس طرا، وقد روى المسلمون سنة وشيعة أن قوله تعالى: ﴿ ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد جزاء ولا شكورا ﴾(الإنسان/7- نزلت في أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم حينما التزموا بوفاء النذر بعد شفاء السبطين (ع). (راجع الكشاف للزمخشري ج4 ص670، والتفسير الكبير للفخر الرازي ج15 ص244، وشواهد التنزيل للحسكاني ج2 ص460-475)
وجاء في بعض تلك الروايات أنهم بعد صومهم لمدة ثلاثة أيام وإفطارهم على الماء القراح أصابهم الضعف في اليوم الرابع ولم يقدروا على المشي وأن الحسن والحسين كانا يرعشان كما يرعش الفرخ فقال رسول الله (ص): «إلهي هؤلاء أهل بيتي يموتون جوعا، فارحمهم يا رب واغفر لهم، هؤلاء أهل بيتي فاحفظهم ولا تنسهم»، فهبط جبرائيل وقال: «يا محمد، إن الله يقرأ عليك السلام ويقول: قد استجبت دعاءك فيهم، وشكرت لهم ورضيت عنهم، وقرأ»: ﴿ إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ﴾إلى قوله:﴿ إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ﴾. (شواهد التنزيل ج2 ص463)
الزهراء (ع) الراضية
بعض الناس حينما يبتلى بالحرمان من المال أو الصحة أو غير ذلك يصبر على البلاء، وهذه درجة ممدوحة وفقا للقرآن والأحاديث، ولكن الأرفع منها درجة الشكر بأن يشكر العبد ربه على ما يبتليه، ومما ورد في هذا المجال أن رسول الله (ص) حينما أخبر أمير المؤمنين (ع) سأله: «فكيف صبرك؟ فأجابه أمير المؤمنين (ع): "يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر ». (نهج البلاغة الخطبة 156، أمالي المفيد ص289 المجلس 34 ح7، أمالي المفيد ص66 المجلس3 ح5)
ولقد حازت الزهراء (ع) أرفع الدرجات – كما حاز ذلك أهل البيت (ع) - حينما تجاوزت مرتبة الصبر والشكر إلى مرتبة أرفع وهي الرضا بما قسمه الله عز وجل لها، وقد روى الكليني عن الإمام السجاد (ع) أنه قال:
«أعلى درجات الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا». (الكافي ج2 ص62 ح10، وص128 ح128)
ومنشأ ذلك أن الرضا ينشأ من المحبة الكاملة، والمحبة حينما تكون كاملة فإن الله عز وجل يمنح صاحبها من آثارها الغاية حتى يرضى بتلك الفيوض الربانية، فالرضا بالقضاء الإلهي يقابله الرضا بالفيض الإلهي.
ويؤكد بلوغها غاية الرضا بما قضى الله عز وجل لها جملة من الروايات:
أ - فقد روى ابن شهرآشوب «أن النبي (ص) رأى ابنته فاطمة الزهراء (ع) وعليها كساء من أجلة الإبل (أي الذي يوضع عليها، وعادة ما يكون من النوع الرديء) وهي تطحن بيديها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه واله فقال: يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقالت: يا رسول الله الحمد لله على نعمائه، والشكر لله على آلائه، فأنزل الله ﴿ ولسوف يعطيك ربك فترضى ﴾ (الضحى/5)"». (مناقب آل أبي طالب ج3 ص120).
ب - وروى الشيخ الصدوق بالأسانيد الثلاثة، عن الرضا (ع)، عن آبائه (ع)، عن علي بن الحسين (ع) أنه قال: حدثتني أسماء بنت عميس قالت: «كنت عند فاطمة (ع) إذ دخل عليها رسول الله (ص) وفي عنقها قلادة من ذهب كان اشتراها لها علي بن أبي طالب (ع) من فئ، فقال لها رسول الله (ص): يا فاطمة لا يقول الناس إن فاطمة بنت محمد تلبس لباس الجبابرة، فقطعتها وباعتها واشترت بها رقبة فأعتقتها، فسر بذلك رسول الله (ص). »(عيون أخبار الرضا ج1 ص49)
وهذا الحديث يؤكد أن أمير المؤمنين كانت لديه الموارد المالية التي تسمح له بشراء قلادة الذهب للزهراء (ع)، ولكن من جهة أنها آثرت العمل بما يحبه الله عز وجل ورضين به التزمت برغبة أبيها (ص) في التصدق بها.
ج- روى الشيخ الصدوق بسنده عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال لرجل من بني سعد: «ألا أحدثك عني وعن فاطمة؟ إنها كانت عندي، وكانت من أحب أهله إليه، وأنها استقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها (أي ظهر فيها الماء الذي يكون بين الجلد واللحم لكثرة العمل)، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد.
فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادما يكفيك ضر ما أنت فيه من هذا العمل، فأتت النبي (ص) فوجدت عنده حداثا (أي شبابا) فاستحت فانصرفت .
قال: فعلم النبي (ص) أنها جاءت لحاجة، قال: فغدا علينا رسول الله (ص) ونحن في لفاعنا فقال: السلام عليكم يا أهل اللفاع، فسكتنا واستحيينا لمكاننا، ثم قال: السلام عليكم فسكتنا، ثم قال: السلام عليكم، فخشينا إن لم نرد عليه أن ينصرف وقد كان يفعل ذلك يسلم ثلاثا، فإن أذن له وإلا انصرف، فقلت: وعليك السلام يا رسول الله ادخل.
فلم يعد أن جلس عند رؤوسنا، فقال: يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس عند محمد؟
قال: فخشيت إن لم نجبه أن يقوم، قال: فأخرجت رأسي فقلت: أنا والله أخبرك يا رسول الله، إنها استقت بالقربة حتى أثرت في صدرها، وجرت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادما يكفيك ضر ما أنت فيه من هذا العمل.
قال (ص): أفلا أعلمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما فسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربع وثلاثين، قال: فأخرجت عليها السلام رأسها فقالت: رضيت عن الله ورسوله، ثلاث دفعات ». (عيون أخبار الرضا ،علل الشرائع ج2 ص336، من لا يحضره الفقيه ج1 ص32)
﴿ ومن كتاب "المنبئ عن زهد النبي (ص)" لأبي محمد جعفر بن أحمد القمي أنه لما نزلت هذه الآية على النبي (ص) ﴿ وإن جهنم لموعدهم أجمعين * لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ﴾ (الحجر/43-44) بكى النبي (ص) بكاء شديدا وبكت صحابته لبكائه ولم يدروا ما نزل به جبرئيل (ع)، ولم يستطع أحد من صحابته أن يكلمه.
وكان النبي (ص) إذا رأى فاطمة (ع) فرح بها، فانطلق بعض أصحابه إلى باب بيتها، فوجد بين يديها شعيرا وهي تطحن فيه وتقول: ﴿ وما عند الله خير وأبقي ﴾ (القصص/60) فسلم عليها وأخبرها بخبر النبي (ص) وبكائه.
فنهضت والتفت بشملة لها خلقة قد خيطت في اثني عشر مكانا بسعف النخل، فلما خرجت نظر سلمان الفارسي إلى الشملة وبكى وقال: واحزناه، إن بنات قيصر وكسرى لفي السندس والحرير، وابنة محمد (ص) عليها شملة صوف خلقة قد خيطت في اثني عشر مكانا.
فلما دخلت فاطمة على النبي (ص) قالت: يا رسول الله إن سلمان تعجب من لباسي، فوالذي بعثك بالحق مالي ولعلي منذ خمس سنين إلا مسك كبش نعلف عليها بالنهار بعيرنا، فإذا كان الليل افترشناه، وإن مرفقتنا لمن أدم حشوها ليف، فقال النبي (ص): يا سلمان إن ابنتي لفي الخيل السوابق. ﴾ (الدروع الواقية ص58، عنه مستدرك الوسائل ج3 ص274، وبحار الأنوار ج43 ص87)
فإذا لم تتمكن الزهراء (ع) من تغيير مسك الكبش الذي هو فراشها لمدة خمس سنين فهذا يعني أنها كانت لا تعير اهتماما بزخارف الدنيا وأنها كانت تنظر إلى رضوان الله تعالى، وكفى بترديدها قوله تعالى: ﴿ وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى ﴾ (القصص/60) مؤشرا جليا على هذا الأمر.
تعيير نساء قريش للزهراء (ع)
أهل الدنيا والمهتمون بزخارفها لايدركون معاني الزهد، فلايرون في الزاهد إلا جانب الفقر الذي ينظرون إليه كحالة وضيعة، لأنهم يرون علو الإنسان ورفعته في مدى امتلاكه لأموال الدنيا، وهؤلاء لاحظ لهم من الفضائل فكيف إذا انضمت إلى هذه الصفة المذمومة صفات أخرى قبيحة كالحسد والخسة؟!
وما نشهده في سيرة الزهراء (ع) إن بعض النساء كن يتعمدن تعييرها (ع) بفقرها وفقر بعلها لإدخال الأذى إلى قلبها، والروايات في هذا المعنى متعددة منها ما رواه شاذان بن جبرايل القمي عن عبد الله بن عباس، يرفعه عن سلمان الفارسي قال:
«كنت واقفا بين يدي رسول الله (ص) أسكب الماء على يديه إذ دخلت فاطمة وهي تبكي، فوضع النبي (ص) يده على رأسها وقال: ما يبكيك؟ لا أبكى الله عينيك يا حورية.
قالت: مررت على ملأ من نساء قريش وهن مخضبات، فلما نظرن إلي وقعوا في وفي ابن عمي، فقال لها: فما سمعت منهن؟ قالت: قلن: كان قد عز على محمد أن يزوج ابنته برجل إلا فقير قريش وأقلهم مالا، فقال لها: يا بنية، ما زوجتك بل زوجك الله تعالى، فكان بدءوه منه، وذلك أن خطبك فلان وفلان وجعلت أمرك إلى الله تعالى وأمسكت عن الناس، وقد صليت صلاة الفجر إذ سمعت حفيف الملائكة وإذا بحبيبي جبرائيل ومعه سبعون صفا من الملائكة متوجين مقرطين مدملجين، فقلت: ما هذه القعقعة من السماء يا أخي جبرائيل؟
فقال: يا محمد، إن الله تعالى اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختار منها من الرجال عليا، ومن النساء فاطمة، فزوج فاطمة من علي.
فرفعت رأسها وتبسمت بعد بكائها: رضيت بالله وبرسوله (بما رضي الله ورسوله)". »(الروضة ص72 ح56 طبعة مكتبة الأمين – قم، بتحقيق: علي الشكرجي، والفضائل ص198 ح40 طبعة الآستانة – قم، بتحقيق: محمود البدري، عنهما عوالم سيدة النساء ص 375 ح1)
والملفت في الرواية أن النساء اللاتي عيرن الزهراء (ع) من نساء قريش، وهو يؤكد تكاتفهن مع رجال قريش في مواطن عديدة ضد آل بيت الرسول (ص)، وخاصة مع ما تشير إليه الرواية من قول النبي (ص): «خطبك فلان وفلان».
والروايات حول تحقق التعيير متعددة يجدها المتتبع. (راجع على سبيل المثال: عوالم سيدة النساء ص378 ح3، أمالي الصدوق ص524 المجلس67 ح2، الإرشاد ج1 ص36، عيون المعجزات ص48)
عبادتها
وإذا ما جئنا إلى أهم جانب من جوانب اهتمامات فاطمة الزهراء (ع) في بيتها نجد أن الروايات تصف الزهراء (ع) بأوصاف تنبئ عن مدى اهتمامها بالعبادة وشدة خوفها من الله عز وجل، فقد روي أنها (ع) كانت تنهج في الصلاة من خيفة الله تعالى، أي يتتابع نفسها. (البحار ج84 ص258)
وروي عن الحسن البصري أنه قال:
"ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة (ع)، كانت تقوم حتى تتورم قدماها". (المناقب ج3 ص341)
وروى الشيخ الصدوق في معاني الأخبار وابن جرير الطبري الإمامي في دلائل الإمامة عن زيد بن علي، عن آبائه، عن فاطمة ابنة النبي (ص) قالت: سمعت النبي (ص) يقول: «إن في الجمعة لساعة لا يراقبها (في دلائل الإمامة: يوافقها) رجل مسلم يسأل الله عز وجل فيها خيراً إلا أعطاه. قالت: فقلت: يا رسول الله أي ساعة هي؟ قال: إذا تدلى نصف عين الشمس للغروب، قال: وكانت فاطمة تقول لغلامها: اصعد على السطح، فإن رأيت نصف عين الشمس قد تدلى للغروب فأعلمني حتى أدعو». (عوالم سيدة النساء ص224)
وفي الرواية إشارة إلى عفة الزهراء (ع) حيث لم تصعد بنفسها على سطح المنزل لترى الشمس بل طلبت من ابنها ذلك.
الجار ثم الدار
وكما كانت تؤثر الآخرين في الطعام فتجوع ليشبعوا فإنها كانت تؤثر الآخرين في الدعاء، وقد روى الشيخ الصدوق بسنده عن الإمام الصادق، عن أبيه الباقر، عن علي بن الحسين، عن فاطمة الصغرى، عن الحسين بن علي، عن أخيه الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال:
"«رأيت أمي فاطمة عليها السلام قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أماه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني، الجار ثم الدار»". (علل الشرائع ج1 ص182، عنه عوالم سيدة النساء ص224)
الزهراء (ع) في وداع النبي (ص)
وعندما دنت من رسول الله (ص) الوفاة أشارت مصادر الفريقين سنة وشيعة إلى موقف استوجب تحير العلماء في ذلك، فقد روى البخاري عن عائشة قالت: «دعا النبي (ص) فاطمة في شكواه الذي قبض فيه، فسارها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارها فضحكت، قالت: فسألتها عن ذلك، فقالت: سارني النبي (ص) فأخبرني أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهل بيته اتبعه فضحكت». (صحيح البخاري ج4 ص183)
وقد أشار الأربلي إلى هذه الواقعة بشيء من التحليل، وعقد مقارنة بين شوق الزهراء (ع) إلى الموت وبين عدم رغبة بعض الأنبياء فيه مع وجود أولي العزم فيهم، ثم قال قال:
«فهؤلاء الأنبياء (ص) وهم ممن عرفت شرفهم وعلو شأنهم وارتفاع مكانهم ومحلهم في الآخرة، وقد عرفوا ذلك وأبت طباعهم البشرية إلا الرغبة في الحياة، وفاطمة (ع) امرأة حديثة عهد بصبى، ذات أولاد صغار وبعل كريم، لم تقض من الدنيا إربا وهي في غضارة عمرها وعنفوان شبابها، يعرفها أبوها أنها سريعة اللحاق به فتسلو موت أبيها (ص) وتضحك طيبة بفراق الدنيا وفراق بنيها وبعلها وفرحة بالموت، مائلة إليه مستبشرة بهجومه، مسترسلة عند قدومه، وهذا أمر عظيم لا تحيط الألسن بصفته، ولا تهتدي القلوب إلى معرفته، وما ذاك إلا لأمر علمه الله من أهل هذا البيت الكريم، وسر أوجب لهم مزية التقديم، فخصهم بباهر معجزاته، وأظهر عليهم آثار علائمه وسماته، وأيدهم ببراهينه الصادعة ودلالاته، والله أعلم حيث يجعل رسالاته». (كشف الغمة ج2 ص82)
ويؤكد شوقها إلى لقاء النبي (ص) ما تشير إليه بعض الروايات من عدم مبالاتها بما سيحل عليها من مصائب الدنيا وأن أصعب الأمور عليها فراق أبيها رسول الله (ص)، فقد روى الشيخ الطوسي بسند صحيح إلى أبان بن تغلب، عن عكرمة (وهذه الرواية حجة على عكرمة)، عن عبد الله بن عباس قال: «لما حضرت رسول الله (ص) الوفاة بكى حتى بلت دموعه لحيته، فقيل له: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: أبكي لذريتي وما تصنع بهم شرار أمتي من بعدي، كأني بفاطمة بنتي وقد ظلمت بعدي وهي تنادي يا أبتاه، فلا يعينها أحد من أمتي، فسمعت ذلك فاطمة عليها السلام فبكت، فقال رسول الله (ص): لا تبكين يا بنية، فقالت: لست أبكي لما يصنع بي من بعدك، ولكني أبكي لفراقك يا رسول الله، فقال لها: أبشري يا بنت محمد بسرعة اللحاق بي، فإنك أول من يلحق بي من أهل بيتي». (الأمالي ص188 المجلس 7 ح18)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير أبي القاسم محمد وعلى أهل بيته الغر الميامين لاسيما بقية الله في الأرضين عجل الله تعالى فرجه وسهل مخرجه.
تطرقت في الحلقة الماضية عن القسم الثاني من سيرة الزهراء (ع) والممتد من زواجها المبارك وحتى شهادة النبي (ص)، وقلنا أن السمة الحاكمة على هذه الفترة هو قلة الظهور العلني للزهراء (ع) وحرصها على التزام البيت (ع) وأنه كانت هناك بعض الحالات الاستثنائية التي جاءت لظروف وأسباب خاصة، وفي هذه الحلقة سنتناول ما كانت تفعله الزهراء (ع) في بيتها.
ماذا كانت تفعل فاطمة (ع) في بيت أمير المؤمنين (ع)؟
كانت (ع) في أعظم العبادات بين التهجد والتضرع والصلاة، وبين إدارة أمر البيت ورعاية أولادها عليهم السلام ضمن مسؤولية محددة ومقسمة بينها وبين أمير المؤمنين (ع)، وقد روى الكليني في الكافي بسند صحيح عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (ع) قال:
«كان أمير المؤمنين (ع) يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة (ع) تطحن وتعجن وتخبز». (الكافي ج5 ص86 ح1)
وبعض الروايات تبين الحد الفاصل في مسؤولية كل واحد من أمير المؤمنين (ع) وفاطمة الزهراء (ع)، ألا وهو باب البيت، في دلالة على مدى حرص الزهراء (ع) على التقليل من الظهور العلني في المحافل العامة ومدى اهتمامها بمراعاة جانب الستر والحياء، وقد روى العياشي عن الإمام الباقر (ع) قال:
«إن فاطمة ضمنت لعلي (ع) عمل البيت والعجين والخبز وقم البيت، وضمن لها علي ما كان خلف الباب من نقل الحطب وأن يجيء بالطعام». (تفسير العياشي ج1 ص303 ح680/42)
ولا منافاة بين روايتي الكليني والعياشي من جهة الكنس والقم حيث جعلته إحدى الروايتين من عمل أمير المؤمنين (ع) والأخرى من عمل فاطمة الزهراء (ع)، إذ من الجائز أن يكون ما يقوم به أمير المؤمنين (ع) من الكنس داخل البيت من باب التطوع والمساعدة، أو يكون عند باب البيت من خارجه.
زهد الزهراء (ع) وعدم الطبخ في البيت
كانت فاطمة الزهراء (ع) تعيش حالة الزهد في الدنيا، إذ كانت تمر بها فترة طويلة ولم تتذوق فيها ما كان دارجا تناوله في البيوت الأخرى، فالبيت الذي لايطبخ فيه الطعام مدة شهر كامل يعني انعدام أدنى درجات جوانب المعيشة البسيطة فيه، وقد روي الراوندي في كتابه "الدعوات" عن سويد بن غفلة قال:
"أصابت عليّاً (ع) شدّة، فأتت فاطمة (ع) رسول الله (ص) فدقّت الباب، فقال: «أسمع حسّ حبيبتي بالباب يا أم أيمن قومي وانظري! ففتحت لها الباب فدخلت، فقال (ص): لقد جئتِنا في وقت ما كنتِ تأتينا في مثله؟ فقالت فاطمة: يا رسول الله ما طعام الملائكة عند ربنا؟ فقال: التحميد، فقالت: ما طعامنا؟ فقال رسول الله (ص): والذي نفسي بيده ما اقتبس في بيوت آل محمد شهرٍ ناراً، وأعلمك خمس كلمات علّمنيهن جبرائيل (ع) قالت: يا رسول الله ما الخمس كلمات؟ قال: (يا رب الأولين والآخرين، يا ذا القوة المتين ويا راحم المساكين ويا أرحم الراحمين). فرجعتْ فلما أبصرها علي (ع) قال: بأبي أنت وأمي ما ورائك يا فاطمة؟
قالت: ذهبت للدنيا وجئت للآخرة! فقال علي: خير أمامك خير أمامكِ، أو خير أيامك، خير أيامك (على نسخة أخرى) ». (عوالم سيدة النساء ص386)
ولم تكن حالة الزهد مفروضة عليها، إذ لا يقال لمن وقع في الفقر قهرا ولم يتمكن من تحصيل الثروة والمال أنه زاهد، ولكن الزهراء (ع) وبعلها أمير المؤمنين (ع) كانا قادرين على تحصيل المال الموجب للعيش بتنعم، ومع ذلك لم يفعلا ترفعا عن الدنيا وموجبات الانشغال بما هو الأقرب إلى الله عز وجل.
إيثار الآخرين
الرواية السابقة تأكيد على إيثار الجانب المعنوي وذكر الله عز وجل على تذوق الجوع وحرمان الطعام، ولم يكن هذا الجانب حالة استثنائية في حياة الزهراء (ع)، بل كان يمثل الأصل والوضع المألوف والصفة الملازمة لها، وقد أنزل الله عز وجل فيها وفي بعلها وابنيها قرآنا يتلى على مسامع الناس طرا، وقد روى المسلمون سنة وشيعة أن قوله تعالى: ﴿ ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد جزاء ولا شكورا ﴾(الإنسان/7- نزلت في أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم حينما التزموا بوفاء النذر بعد شفاء السبطين (ع). (راجع الكشاف للزمخشري ج4 ص670، والتفسير الكبير للفخر الرازي ج15 ص244، وشواهد التنزيل للحسكاني ج2 ص460-475)
وجاء في بعض تلك الروايات أنهم بعد صومهم لمدة ثلاثة أيام وإفطارهم على الماء القراح أصابهم الضعف في اليوم الرابع ولم يقدروا على المشي وأن الحسن والحسين كانا يرعشان كما يرعش الفرخ فقال رسول الله (ص): «إلهي هؤلاء أهل بيتي يموتون جوعا، فارحمهم يا رب واغفر لهم، هؤلاء أهل بيتي فاحفظهم ولا تنسهم»، فهبط جبرائيل وقال: «يا محمد، إن الله يقرأ عليك السلام ويقول: قد استجبت دعاءك فيهم، وشكرت لهم ورضيت عنهم، وقرأ»: ﴿ إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ﴾إلى قوله:﴿ إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ﴾. (شواهد التنزيل ج2 ص463)
الزهراء (ع) الراضية
بعض الناس حينما يبتلى بالحرمان من المال أو الصحة أو غير ذلك يصبر على البلاء، وهذه درجة ممدوحة وفقا للقرآن والأحاديث، ولكن الأرفع منها درجة الشكر بأن يشكر العبد ربه على ما يبتليه، ومما ورد في هذا المجال أن رسول الله (ص) حينما أخبر أمير المؤمنين (ع) سأله: «فكيف صبرك؟ فأجابه أمير المؤمنين (ع): "يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر ». (نهج البلاغة الخطبة 156، أمالي المفيد ص289 المجلس 34 ح7، أمالي المفيد ص66 المجلس3 ح5)
ولقد حازت الزهراء (ع) أرفع الدرجات – كما حاز ذلك أهل البيت (ع) - حينما تجاوزت مرتبة الصبر والشكر إلى مرتبة أرفع وهي الرضا بما قسمه الله عز وجل لها، وقد روى الكليني عن الإمام السجاد (ع) أنه قال:
«أعلى درجات الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا». (الكافي ج2 ص62 ح10، وص128 ح128)
ومنشأ ذلك أن الرضا ينشأ من المحبة الكاملة، والمحبة حينما تكون كاملة فإن الله عز وجل يمنح صاحبها من آثارها الغاية حتى يرضى بتلك الفيوض الربانية، فالرضا بالقضاء الإلهي يقابله الرضا بالفيض الإلهي.
ويؤكد بلوغها غاية الرضا بما قضى الله عز وجل لها جملة من الروايات:
أ - فقد روى ابن شهرآشوب «أن النبي (ص) رأى ابنته فاطمة الزهراء (ع) وعليها كساء من أجلة الإبل (أي الذي يوضع عليها، وعادة ما يكون من النوع الرديء) وهي تطحن بيديها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه واله فقال: يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقالت: يا رسول الله الحمد لله على نعمائه، والشكر لله على آلائه، فأنزل الله ﴿ ولسوف يعطيك ربك فترضى ﴾ (الضحى/5)"». (مناقب آل أبي طالب ج3 ص120).
ب - وروى الشيخ الصدوق بالأسانيد الثلاثة، عن الرضا (ع)، عن آبائه (ع)، عن علي بن الحسين (ع) أنه قال: حدثتني أسماء بنت عميس قالت: «كنت عند فاطمة (ع) إذ دخل عليها رسول الله (ص) وفي عنقها قلادة من ذهب كان اشتراها لها علي بن أبي طالب (ع) من فئ، فقال لها رسول الله (ص): يا فاطمة لا يقول الناس إن فاطمة بنت محمد تلبس لباس الجبابرة، فقطعتها وباعتها واشترت بها رقبة فأعتقتها، فسر بذلك رسول الله (ص). »(عيون أخبار الرضا ج1 ص49)
وهذا الحديث يؤكد أن أمير المؤمنين كانت لديه الموارد المالية التي تسمح له بشراء قلادة الذهب للزهراء (ع)، ولكن من جهة أنها آثرت العمل بما يحبه الله عز وجل ورضين به التزمت برغبة أبيها (ص) في التصدق بها.
ج- روى الشيخ الصدوق بسنده عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال لرجل من بني سعد: «ألا أحدثك عني وعن فاطمة؟ إنها كانت عندي، وكانت من أحب أهله إليه، وأنها استقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها (أي ظهر فيها الماء الذي يكون بين الجلد واللحم لكثرة العمل)، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد.
فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادما يكفيك ضر ما أنت فيه من هذا العمل، فأتت النبي (ص) فوجدت عنده حداثا (أي شبابا) فاستحت فانصرفت .
قال: فعلم النبي (ص) أنها جاءت لحاجة، قال: فغدا علينا رسول الله (ص) ونحن في لفاعنا فقال: السلام عليكم يا أهل اللفاع، فسكتنا واستحيينا لمكاننا، ثم قال: السلام عليكم فسكتنا، ثم قال: السلام عليكم، فخشينا إن لم نرد عليه أن ينصرف وقد كان يفعل ذلك يسلم ثلاثا، فإن أذن له وإلا انصرف، فقلت: وعليك السلام يا رسول الله ادخل.
فلم يعد أن جلس عند رؤوسنا، فقال: يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس عند محمد؟
قال: فخشيت إن لم نجبه أن يقوم، قال: فأخرجت رأسي فقلت: أنا والله أخبرك يا رسول الله، إنها استقت بالقربة حتى أثرت في صدرها، وجرت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادما يكفيك ضر ما أنت فيه من هذا العمل.
قال (ص): أفلا أعلمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما فسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربع وثلاثين، قال: فأخرجت عليها السلام رأسها فقالت: رضيت عن الله ورسوله، ثلاث دفعات ». (عيون أخبار الرضا ،علل الشرائع ج2 ص336، من لا يحضره الفقيه ج1 ص32)
﴿ ومن كتاب "المنبئ عن زهد النبي (ص)" لأبي محمد جعفر بن أحمد القمي أنه لما نزلت هذه الآية على النبي (ص) ﴿ وإن جهنم لموعدهم أجمعين * لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ﴾ (الحجر/43-44) بكى النبي (ص) بكاء شديدا وبكت صحابته لبكائه ولم يدروا ما نزل به جبرئيل (ع)، ولم يستطع أحد من صحابته أن يكلمه.
وكان النبي (ص) إذا رأى فاطمة (ع) فرح بها، فانطلق بعض أصحابه إلى باب بيتها، فوجد بين يديها شعيرا وهي تطحن فيه وتقول: ﴿ وما عند الله خير وأبقي ﴾ (القصص/60) فسلم عليها وأخبرها بخبر النبي (ص) وبكائه.
فنهضت والتفت بشملة لها خلقة قد خيطت في اثني عشر مكانا بسعف النخل، فلما خرجت نظر سلمان الفارسي إلى الشملة وبكى وقال: واحزناه، إن بنات قيصر وكسرى لفي السندس والحرير، وابنة محمد (ص) عليها شملة صوف خلقة قد خيطت في اثني عشر مكانا.
فلما دخلت فاطمة على النبي (ص) قالت: يا رسول الله إن سلمان تعجب من لباسي، فوالذي بعثك بالحق مالي ولعلي منذ خمس سنين إلا مسك كبش نعلف عليها بالنهار بعيرنا، فإذا كان الليل افترشناه، وإن مرفقتنا لمن أدم حشوها ليف، فقال النبي (ص): يا سلمان إن ابنتي لفي الخيل السوابق. ﴾ (الدروع الواقية ص58، عنه مستدرك الوسائل ج3 ص274، وبحار الأنوار ج43 ص87)
فإذا لم تتمكن الزهراء (ع) من تغيير مسك الكبش الذي هو فراشها لمدة خمس سنين فهذا يعني أنها كانت لا تعير اهتماما بزخارف الدنيا وأنها كانت تنظر إلى رضوان الله تعالى، وكفى بترديدها قوله تعالى: ﴿ وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى ﴾ (القصص/60) مؤشرا جليا على هذا الأمر.
تعيير نساء قريش للزهراء (ع)
أهل الدنيا والمهتمون بزخارفها لايدركون معاني الزهد، فلايرون في الزاهد إلا جانب الفقر الذي ينظرون إليه كحالة وضيعة، لأنهم يرون علو الإنسان ورفعته في مدى امتلاكه لأموال الدنيا، وهؤلاء لاحظ لهم من الفضائل فكيف إذا انضمت إلى هذه الصفة المذمومة صفات أخرى قبيحة كالحسد والخسة؟!
وما نشهده في سيرة الزهراء (ع) إن بعض النساء كن يتعمدن تعييرها (ع) بفقرها وفقر بعلها لإدخال الأذى إلى قلبها، والروايات في هذا المعنى متعددة منها ما رواه شاذان بن جبرايل القمي عن عبد الله بن عباس، يرفعه عن سلمان الفارسي قال:
«كنت واقفا بين يدي رسول الله (ص) أسكب الماء على يديه إذ دخلت فاطمة وهي تبكي، فوضع النبي (ص) يده على رأسها وقال: ما يبكيك؟ لا أبكى الله عينيك يا حورية.
قالت: مررت على ملأ من نساء قريش وهن مخضبات، فلما نظرن إلي وقعوا في وفي ابن عمي، فقال لها: فما سمعت منهن؟ قالت: قلن: كان قد عز على محمد أن يزوج ابنته برجل إلا فقير قريش وأقلهم مالا، فقال لها: يا بنية، ما زوجتك بل زوجك الله تعالى، فكان بدءوه منه، وذلك أن خطبك فلان وفلان وجعلت أمرك إلى الله تعالى وأمسكت عن الناس، وقد صليت صلاة الفجر إذ سمعت حفيف الملائكة وإذا بحبيبي جبرائيل ومعه سبعون صفا من الملائكة متوجين مقرطين مدملجين، فقلت: ما هذه القعقعة من السماء يا أخي جبرائيل؟
فقال: يا محمد، إن الله تعالى اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختار منها من الرجال عليا، ومن النساء فاطمة، فزوج فاطمة من علي.
فرفعت رأسها وتبسمت بعد بكائها: رضيت بالله وبرسوله (بما رضي الله ورسوله)". »(الروضة ص72 ح56 طبعة مكتبة الأمين – قم، بتحقيق: علي الشكرجي، والفضائل ص198 ح40 طبعة الآستانة – قم، بتحقيق: محمود البدري، عنهما عوالم سيدة النساء ص 375 ح1)
والملفت في الرواية أن النساء اللاتي عيرن الزهراء (ع) من نساء قريش، وهو يؤكد تكاتفهن مع رجال قريش في مواطن عديدة ضد آل بيت الرسول (ص)، وخاصة مع ما تشير إليه الرواية من قول النبي (ص): «خطبك فلان وفلان».
والروايات حول تحقق التعيير متعددة يجدها المتتبع. (راجع على سبيل المثال: عوالم سيدة النساء ص378 ح3، أمالي الصدوق ص524 المجلس67 ح2، الإرشاد ج1 ص36، عيون المعجزات ص48)
عبادتها
وإذا ما جئنا إلى أهم جانب من جوانب اهتمامات فاطمة الزهراء (ع) في بيتها نجد أن الروايات تصف الزهراء (ع) بأوصاف تنبئ عن مدى اهتمامها بالعبادة وشدة خوفها من الله عز وجل، فقد روي أنها (ع) كانت تنهج في الصلاة من خيفة الله تعالى، أي يتتابع نفسها. (البحار ج84 ص258)
وروي عن الحسن البصري أنه قال:
"ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة (ع)، كانت تقوم حتى تتورم قدماها". (المناقب ج3 ص341)
وروى الشيخ الصدوق في معاني الأخبار وابن جرير الطبري الإمامي في دلائل الإمامة عن زيد بن علي، عن آبائه، عن فاطمة ابنة النبي (ص) قالت: سمعت النبي (ص) يقول: «إن في الجمعة لساعة لا يراقبها (في دلائل الإمامة: يوافقها) رجل مسلم يسأل الله عز وجل فيها خيراً إلا أعطاه. قالت: فقلت: يا رسول الله أي ساعة هي؟ قال: إذا تدلى نصف عين الشمس للغروب، قال: وكانت فاطمة تقول لغلامها: اصعد على السطح، فإن رأيت نصف عين الشمس قد تدلى للغروب فأعلمني حتى أدعو». (عوالم سيدة النساء ص224)
وفي الرواية إشارة إلى عفة الزهراء (ع) حيث لم تصعد بنفسها على سطح المنزل لترى الشمس بل طلبت من ابنها ذلك.
الجار ثم الدار
وكما كانت تؤثر الآخرين في الطعام فتجوع ليشبعوا فإنها كانت تؤثر الآخرين في الدعاء، وقد روى الشيخ الصدوق بسنده عن الإمام الصادق، عن أبيه الباقر، عن علي بن الحسين، عن فاطمة الصغرى، عن الحسين بن علي، عن أخيه الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال:
"«رأيت أمي فاطمة عليها السلام قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أماه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني، الجار ثم الدار»". (علل الشرائع ج1 ص182، عنه عوالم سيدة النساء ص224)
الزهراء (ع) في وداع النبي (ص)
وعندما دنت من رسول الله (ص) الوفاة أشارت مصادر الفريقين سنة وشيعة إلى موقف استوجب تحير العلماء في ذلك، فقد روى البخاري عن عائشة قالت: «دعا النبي (ص) فاطمة في شكواه الذي قبض فيه، فسارها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارها فضحكت، قالت: فسألتها عن ذلك، فقالت: سارني النبي (ص) فأخبرني أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهل بيته اتبعه فضحكت». (صحيح البخاري ج4 ص183)
وقد أشار الأربلي إلى هذه الواقعة بشيء من التحليل، وعقد مقارنة بين شوق الزهراء (ع) إلى الموت وبين عدم رغبة بعض الأنبياء فيه مع وجود أولي العزم فيهم، ثم قال قال:
«فهؤلاء الأنبياء (ص) وهم ممن عرفت شرفهم وعلو شأنهم وارتفاع مكانهم ومحلهم في الآخرة، وقد عرفوا ذلك وأبت طباعهم البشرية إلا الرغبة في الحياة، وفاطمة (ع) امرأة حديثة عهد بصبى، ذات أولاد صغار وبعل كريم، لم تقض من الدنيا إربا وهي في غضارة عمرها وعنفوان شبابها، يعرفها أبوها أنها سريعة اللحاق به فتسلو موت أبيها (ص) وتضحك طيبة بفراق الدنيا وفراق بنيها وبعلها وفرحة بالموت، مائلة إليه مستبشرة بهجومه، مسترسلة عند قدومه، وهذا أمر عظيم لا تحيط الألسن بصفته، ولا تهتدي القلوب إلى معرفته، وما ذاك إلا لأمر علمه الله من أهل هذا البيت الكريم، وسر أوجب لهم مزية التقديم، فخصهم بباهر معجزاته، وأظهر عليهم آثار علائمه وسماته، وأيدهم ببراهينه الصادعة ودلالاته، والله أعلم حيث يجعل رسالاته». (كشف الغمة ج2 ص82)
ويؤكد شوقها إلى لقاء النبي (ص) ما تشير إليه بعض الروايات من عدم مبالاتها بما سيحل عليها من مصائب الدنيا وأن أصعب الأمور عليها فراق أبيها رسول الله (ص)، فقد روى الشيخ الطوسي بسند صحيح إلى أبان بن تغلب، عن عكرمة (وهذه الرواية حجة على عكرمة)، عن عبد الله بن عباس قال: «لما حضرت رسول الله (ص) الوفاة بكى حتى بلت دموعه لحيته، فقيل له: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: أبكي لذريتي وما تصنع بهم شرار أمتي من بعدي، كأني بفاطمة بنتي وقد ظلمت بعدي وهي تنادي يا أبتاه، فلا يعينها أحد من أمتي، فسمعت ذلك فاطمة عليها السلام فبكت، فقال رسول الله (ص): لا تبكين يا بنية، فقالت: لست أبكي لما يصنع بي من بعدك، ولكني أبكي لفراقك يا رسول الله، فقال لها: أبشري يا بنت محمد بسرعة اللحاق بي، فإنك أول من يلحق بي من أهل بيتي». (الأمالي ص188 المجلس 7 ح18)
مواضيع مماثلة
» محاظرات سماحة السيد هاشم الهاشمي8
» محاظرات سماحة السيد هاشم الهاشمي10
» محاظرات سماحة السيد هاشم الهاشمي11
» محاظرات سماحة السيد هاشم الهاشمي13
» محاظرات سماحة السيد هاشم الهاشمي14
» محاظرات سماحة السيد هاشم الهاشمي10
» محاظرات سماحة السيد هاشم الهاشمي11
» محاظرات سماحة السيد هاشم الهاشمي13
» محاظرات سماحة السيد هاشم الهاشمي14
alzahra2 :: الفئة الأولى :: قسم السيره :: مقالات مقتبسة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى