المخدرة لا تفتح الباب
صفحة 1 من اصل 1
المخدرة لا تفتح الباب
مأساة الزهراء عليها السلام ج 1 - العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي - ص 271
المخدرة لا تفتح الباب :
ويقول البعض : إذا كانت الزهراء ( ع ) مخدرة ، فكيف تبادر هي لفتح الباب ، فإن التي لا ترى الرجال ولا تقابل أحدا لا تفعل ذلك . .
والجواب :
- ص 272 -
أولا : هل المخدرة لا يحق لها أن تدافع عن نفسها ، لو هوجمت ، أو عن ولدها وزوجها ، أو عن شرفها ، أو دينها ، ورسالتها ؟ !
ثانيا : ألم تكن زينب أيضا مخدرة ؟ فلماذا أخرجها الإمام الحسين ( ع ) معه إلى كربلاء لتواجه السبي ، والمصائب ، وتواجه الرجال ، وتخطب في الكوفة ، وفي الشام أمام طواغيت وجبابرة الأرض في زمانها ؟ !
ثالثا : هل خدرها يمنعها من الإجابة من خلف الباب ، أو أن إجابتها هذه سوف تكشفها للناس ، ليروا ما لا يجوز لهم رؤيته منها ؟ !
رابعا : إذا كانت قد أجابتهم من خلف الباب ، فلا يعني ذلك أنها قد قابلتهم وجها لوجه ، فإذا كسروا الباب ، ولاذت خلفه رعاية للستر والحجاب ، وعصروها بين الباب والحائط ، فهل تكون هي المسؤولة عن ذلك ؟ ! . . ويؤيد ذلك أنه قد جاء في بعض النصوص : أنها عليها السلام قد مدت يديها من خلف الباب ، فضربوا كفيها بالسوط ( 1 ) .
خامسا : أليست هذه المخدرة نفسها قد خطبت الناس بالمسجد ، باعتراف هذا السائل نفسه ؟ ! وسمع صوتها القاصي والداني ؟ !
وهل الخدر للمرأة يمنعها من أن تدافع عن القضية العادلة ، وعن الحق لو انحصر بها الدفاع عنه واستلزم ذلك الجهر بالمظلومية ؟
ألم يستثن الفقهاء صورة الدفاع عن الحق ، من ممنوعية سماع صوت المرأة ، لو قيل بتحريمه ؟ !
( 1 ) البحار : ج 30 ص 293 - 295 . ( * )
- ص 273 -
وكيف يجوز لها أن تخطب الناس في المسجد ، ولا يجوز لها أن تجيب من خلف الباب ؟ !
وهل يمنعها خدرها من الدفاع عن الإمامة وكشف الحقيقة للأجيال حين انحصر إنجاز هذا الأمر الخطير بها عليها السلام ؟ .
هل خدرها يحجزها عن الوقوف في وجه الظالمين والغاصبين ، لتكشف للناس حقيقتهم ، وتظهر واقع نواياهم ، وجرأتهم على الله ورسوله ، وأنهم على استعداد للتعرض حتى للنساء ، بل حتى لأقدس امرأة ، وهي سيدة نساء العالمين ، والبنت الوحيدة لأعظم رسول ، حتى فور وفاته صلوات الله وسلامه عليه ؟
هل هناك بيان أفصح من هذا البيان ؟
وهل يمكن لولا ذلك معرفة الظالم من المظلوم ، والمهاجم من المدافع ؟
ومن الذي يضمن لنا أن لا يبادر من يجترئ على إهانة الزهراء ( ع ) ، والرسول ( ص ) ، حتى قيل له : إن النبي ليهجر ، من أن يقدم على تحريف الحقائق وتزويرها ؟ !
سادسا : إن هذا المعترض نفسه ينكر صحة حديث : خير للمرأة أن لا يراها الرجال ولا ترى الرجال ، ويستند في ذلك إلى ما ذكرناه من خطبتها عليها السلام في المسجد ، وبخروجها مع النساء في الحروب والغزوات ، وبكلامها مع أبي بكر وعمر حينما دخلا عليها ليسترضياها . فما معنى أن يستدل بذلك هنا ، وينكره هناك ؟ !
لماذا لا يفتح الباب الزبير ، أو فضة ؟
ومن الأمور المستغربة قول هذا البعض : كل الروايات تقول : لم يكن علي عليه السلام وحده في البيت
- ص 274 -
حينما هاجموه ليخرجوه ليبايع أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ، بل كان معه " جميع بني هاشم " ، وكانت معهم فضة ، والزبير والعباس . فلماذا لم يفتح أحدهم الباب دونها ( ع ) ؟ .
والجواب : إن دعوى : " وجود جميع بني هاشم في داخل البيت وقت الحادثة "، غير معلومة الصحة، وذلك لما يلي:
أولا : إن النظام - كما ينقل عنه - يصرح بأن عمر " كان يصيح : أحرقوا دارها بمن فيها " ، وما كان في الدار غير علي ، وفاطمة والحسن والحسين عليهم سلام الله ( 1 ) .
وقوله : " ما كان في الدار الخ . . " سواء أكان من كلام النظام ، أو من كلام المؤلف فإنه كاف في ما نريده هناك ، وهو ينفي وجود فضة والزبير أيضا .
وثانيا : لو سلمنا وجود أشخاص آخرين في بعض الأحيان ، فإن الهجوم على بيت الزهراء ( ع ) ، قد كان أثر من مرة ، وقد ظهر ذلك صراحة في سياق الحديث الذي ورد في الإمامة والسياسة ( 2 ) .
وتدل عليه روايات عديدة أخرى خصوصا مع الجمع والمقارنة بينها ، وملاحظة خصوصيات الأحداث ، فإذا كان ثمة أشخاص في بيت الزهراء ( ع ) في الهجوم الأول ، فليس بالضرورة أن يكونوا موجودين في الهجوم الثاني ، أو الذي بعده . . وما هو الدليل الذي دل على ذلك ؟ .
( 1 ) الملل والنحل : ج 1 ص 84 ، والبحار : ج 28 ص 271 ، وبيت الأحزان : ص 124 .
( 2 ) الإمامة والسياسة : ج 1 ص 12 . ( * )
- ص 275 -
وثالثا : لا توجد رواية تقول : إن جميع بني هاشم كانوا في البيت ، نعم هم يقولون : إن بني هاشم قد قعدوا عن البيعة ، ولعل القائل قد اشتبه عليه الأمر ، فتخيل أنهم قعدوا عن البيعة في بيت علي عليه السلام ، ولم يلتفت إلى أن معنى " قعدوا " أنهم امتنعوا عنها ، لا جلسوا في بيت علي ( ع ) ، أو غيره ! !
ورابعا : بعض الروايات صرحت بوجود الزبير فقط ( 1 ) بالإضافة إلى علي وفاطمة والحسنين عليهم الصلاة والسلام ، ولم تذكر سوى هؤلاء . وبعض الروايات أشارت إلى وجود عدد أو جمع من بني هاشم لا جميعهم ( 2 ) .
وهذه الروايات وإن لم تكن متعارضة لعدم التعارض بين المثبتات ، ولكنها - خصوصا الأخيرة - تنفي وجود جميع بني هاشم في بيت فاطمة ( ع ) . وخامسا : البيت صغير ، لا يتسع لجميع بني هاشم ، ولا حتى لنصفهم ، خصوصا مع دفن النبي ( ص ) في ذلك البيت ، حيث لا بد من مراعاة حرمته أيضا .
وسادسا : إن الذي منع عليا عليه السلام ، وفضة ، والحسنين عليهما السلام من فتح الباب ، هو نفسه الذي منع الزبير ، وسائر بني هاشم من ذلك ، كما سيتضح في الإجابة على السؤال التالي إن شاء الله تعالى .
( 1 ) الأمالي للمفيد : ص 49 / 50 . ( 2 ) راجع : المفيد في الجمل ، ( ط جديد ) ص 117 / 118 . ( * )
- ص 276 -
لو أجابهم علي ( ع ) :
يزعم البعض : أنه قد كان على علي ( عليه السلام ) أن يفتح الباب ، أو تفتحه فضة أو غيرها . أما الزهراء ( عليها السلام ) ، فلا مبرر لمبادرتها هي لفتح الباب دونهم .
والجواب : هناك أمران ، لا بد من الحديث عنهما :
أحدهما : هل يمكن لعلي ( عليه السلام ) أو غيره أن يفتح الباب ؟ !
الثاني : لماذا لا بد للزهراء ( عليها السلام ) دون سواها أن تتولى هذا الأمر ؟
والإجابة على هذين السؤالين متداخلة ، ولأجل ذلك حررناها على النحو التالي :
أولا : لقد كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يأمر بعض زوجاته بفتح الباب للطارق ، كما تقدم ، فلا حرج مبدئيا من قيام الزهراء بمهمة إجابة الطارقين .
ثانيا : إن من الواضح : أن فتح علي عليه السلام للباب ، أو على الأقل إجابته للمهاجمين ولو من خلف الباب لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يفعل من يأمرونه به من المبادرة إلى بيعة صاحبهم - أعني أبا بكر - ، ويكون في هذه الحالة قد قدم ما يشبه الاعتراف بشرعية ما قاموا به ، بل هو يلغي كل دلالة على أن له حقا في هذا الأمر من
- ص 277 -
الأساس . وإما أن يقتصر على إجابة المهاجمين ، ثم الامتناع عن تلبية طلبهم ، وهذا سوف يدفع بالمهاجمين إلى مجادلته ، ومحاولة التأثير عليه بالكلمة القوية ، أو اللينة ، أو حتى محاولة إخراجه للبيعة بالقوة .
وذلك منه عليه السلام سوف يعطيهم الفرصة لتشويه الأمور ، وإظهارها على غير حقيقتها ، وادعاء ما يحلو لهم عليه ، بحيث يكسرونه ويشوهون الحقيقة للناس ، وهم المهيمنون والحاكمون ، وإليهم تتلع الأعناق الطامعة ، ويتزلف المتزلفون .
إنهم سوف يقولون للناس : لقد جئنا للتعزية والسؤال عن الحال ، ولكن عليا ( عليه السلام ) هو الذي واجهنا بالكلمة اللاذعة ، أو بالعنف ، حسدا منه لنا ، واعتدادا بنفسه ، وإدلالا بمواقفه ، وبقوته ، وبقرابته من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثم بفروسيته ، وبكونه زوج بنت الرسول ، وأبا السبطين ، فهو المعتدي ونحن الضحية ، وهو الحاسد والحاقد ، والمهاجم والمغرور ، وهو الطامع في أمر كان هو بنفسه قد أعلن انصرافه عنه ، حيث إنهم كانوا قد أشاعوا عنه بين الناس ، وهو منشغل بتجهيز رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنه لا يريد هذا الأمر ، كما يدل عليه قول المنذر بن أرقم في السقيفة ، حينما رجحت كفة أبي بكر على سعد ، واختلف الأنصار فيما بينهم ، وتنازعوا : " إن فيهم لرجلا ، لو طلب هذا الأمر ، لم ينازعه فيه أحد ، يعني علي ابن أبي طالب ( عليه السلام ) " ( 1 ) .
( 1 ) تاريخ اليعقوبي : ج 2 ص 123 . ( * )
- ص 278 -
وفي رسالة ذكر أن عمر بن الخطاب كتبها إلى معاوية ، يقول فيها عن أبي بكر : " وقدمت الناس إلى بيعته وصحبته ، لأرهبه وكل من ينكر بيعته ، ويقول : ما فعل علي بن أبي طالب ؟ فأقول : خلعها من عنقه ، وجعلها طاعة للمسلمين ، قلة خلاف عليهم ، فصار جليس بيته " ( 1 ) .
نعم إنهم سيقولون للناس : إذا كان علي عليه السلام قد انصرف عن هذا الأمر ، وإذا كان لا بد من ضبط الأمور ، خوفا من الفتنة ، فقد بادرنا إلى ذلك حفاظا على الإسلام ، ولكي نحفظ للأمة وحدتها ، وللناس كراماتهم ، وانتظام أمور حياتهم ، لأننا نريد الخير للناس ، والزلفى والقرب من الله ، ولا شئ سوى ذلك ، وحين واجهنا بالعنف ، لم يكن أمامنا خيار ، إلا أن اعتقلناه درءا للفتنة ، وحفاظا على الدين والأمة .
ومن الذي يستطيع أن ينكر عليهم ما يدعون ، ويرى الناس أنهم حكام متسلطون ، ولدى الحكام عادة السياط والسيوف إلى جانبها الأموال ، والمناصب ، وبإمكانهم تلبية المطامح والمآرب ، ويبقى إعلامهم هو الأعلى صوتا ، لأنه يضرب بسيوف المال والجاه ، والجبروت ، والأطماع ، والهوى ، وهناك الحقد الظالم من الكثيرين على علي ( عليه السلام ) وعلى كل من يلوذ به ، أو ينسب إليه .
وعليهم أن يستفيدوا من هذه الأحقاد أيضا لتثبيت أمرهم ، وتقوية سلطانهم . وحين أجابتهم فاطمة عليها السلام ، كان جوابها المفاجأة التي ضيعت عليهم الفرصة التي رأوها سانحة ، فواجهوها بالعنف والقوة ،
( 1 ) البحار : ج 3 ، ص 292 - 294 . ( * )
- ص 279 -
وبانفعال ورعونة ، حيث بادروها بالهجوم الشرس ، الذي ينم عن حنق لا مبرر له إلا الإصرار على انتزاع هذا الأمر بالقوة ، حتى ولو كان بقيمة قتل " المحسن " ، وهتك حرمة بيتها ( عليها السلام ) والاعتداء عليها بالضرب المبرح ، وهي امرأة ليست هي بالطامعة ، ولا الحاسدة ، ولا المغرورة بنفسها ، ولا الحاقدة ، ولا المشاغبة ، إنها امرأة جاءت لترى من الطارق ؟
ولم تكن بصدد إطلاق الكلمات الرعناء بلا حساب ، بل لا مبرر لأن تفعل ذلك ابتداء ، وهي المرأة المثكولة بأبيها أعظم نبي وجد في هذا العالم ، وقد أخرجهم من الظلمات إلى النور ، وهي ابنته الوحيدة ، والإنسانة المميزة التي هي أفضل نساء العالمين من الأولين والآخرين ، وهي التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها .
فلو أنهم حين جاؤا قد تكلموا بالكلام اللين والمهذب ، وقالوا لها : كيف أصبحت يا بنت رسول الله ؟ لقد جئنا للاطمئنان على حالكم ، وللسؤال عن صحتكم ، ولنعزيكم برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فهل تأذنين لنا بزيارتكم لمباسطة علي ومؤانسته ، والاطلاع على أحواله ، فهل كانت الزهراء ستواجههم بغير الخلق الرضي ، والكلمة الطيبة ، وبغير التأهيل والترحيب ؟ ! ثم تطالبهم وتحتج عليهم في ما يحاولونه من اغتصاب أمر الخلافة ، أو يطالبهم علي ( عليه السلام ) بذلك بحكمة وأناة بعيدا عن أجواء العنف والقهر ، واستعمال السيوف والسياط .
ولكن الحقيقة هي : أن هؤلاء كانوا يريدون الاستعجال بأخذ البيعة من علي ( عليه السلام ) ، إذ أنهم سرعان ما سيظهر عدم صحة ما قالوه للناس ، وأن عليا ( عليه السلام ) لم ينصرف عن هذا الأمر ، فبماذا يجيبون الناس على سؤال : لقد بايعتم أمس عليا ( عليه السلام ) في يوم
- ص 280 -
الغدير ، ثم قلتم لنا : إنه قد استقال من هذا الأمر ، وها قد ظهر خلاف ما ادعيتم ، فكان أن أسرعوا إلى علي ( عليه السلام ) ليأخذوا البيعة منه بالقوة وبطريقة إرهابية ، ليتلافوا أي حجاج أو احتجاج يحرجهم ، ويفضح ما لا يحبون فضحه ، كما أنهم بهذا الجو الإرهابي يظهرون عليا ( عليه السلام ) على أنه متمرد على الشرعية ، وخارج على القانون .
فكان موقف الزهراء ( ع ) مفاجئا لهم فقد أفقدهم القدرة على التصرف المناسب وضيع عليهم ما جاؤا لأجله ، فتصرفوا معها برعونة وبانفعال وحقد ، وتسببت في فضح أمرهم ، وهتم المستور من نواياهم وخباياهم ، فأين هي التقوى التي يدعونها ، وحب الخير الذي يزعمونه ؟ ! وعرف الناس حقيقة ما أرادوه من وأد الفتنة ، وإقامة شرع الله وأحكام الدين الذي يتذرعون به .
إن ما فعلوه مع الزهراء ( عليها السلام ) ، قد أفقدهم القدرة على تلميع الصورة ، وكان فتح الزهراء للباب ضربة موفقة محقت كل كيد وزيف ، وأبطلت كل تزوير أو تحوير للوقائع والحقائق . وكيف يمكن تحصين الأجيال من التزوير الإعلامي ، الذي قد يمارسه الحكام بكل ما يملكون من طاقات وإمكانات سلطوية ومادية ؟ ! .
لقد قتل المأمون أخاه الأمين ، ثم صورة إعلامه أنه إنسان تافه ، جاهل وأحمق ، بل ومتخلف عقليا ، ولم يزل الباحثون يعتقدون فيه نفس هذا الاعتقاد الذي أوحى به المأمون للناس ، مع أن الحقيقة هي أنه كان على عكس ذلك تماما ، لكن ذنبه : أنه هزم وقتل . وإذا كنا نحن نملك معابيره تمكننا من اكتشاف كثير من الحقائق
- ص 281 -
فيها يرتبط بما ينسبونه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة ( عليه السلام ) وغيرهم ، لتصديقنا بالقرآن الذي هو ميزان ومعيار ، وكذلك الحال بالنسبة للرسول ( صلى الله عليه وآله ) ولأمور أخرى ، فإن غيرنا ممن لا يدين بالإسلام ، إذا أراد أن يكتشف الحقيقة من خلال دراسة الشواهد التاريخية المتوفرة لديه ، فسيصعب عليه ذلك جدا .
لأنه إذا قرأ : أن هناك إنسانا يهتف النبي ( صلى الله عليه وآله ) باسمه ، ويقول هو وليكم بعدي ، ويهتف الخلق ولا سيما الأنصار باسمه ( 1 ) ، ويقولون في السقيفة ، لا نبايع إلا عليا ( 2 ) ، وهو العالم الشجاع ، القوي المجاهد ، صاحب المواقف الكبرى ، والتضحيات الجسام ، وهو صهر النبي وربيبه ، وابن عمه وحبيبه الخ . . .
وقرأ في المقابل : أن مناوئيه ( عليه السلام ) قد اغتنموا فرصة غيابه عن الساحة ، واختصوا بالأمر لأنفسهم ثم جاؤا إلى بيته وطالبوه بأن يقر لهم بما اغتصبوه ، ويسلم ويعترف لهم ، ويخضع لما أرادوه . .
ثم قرأ ثالثة : ما يدل على وجود شائعات راجت بين الناس تقول : إن صاحب هذا الأمر قد انصرف عنه ، ولم يعد يطلبه لأسباب خاصة أو عامة .
قال المحقق القاضي نور الله التستري : " أوقع بعض المنحرفين عن علي في قلوب الناس أنه ( ع ) قد تقاعد عن تصدي الخلافة لشدة ما أصابه من مصيبة النبي ( ص ) ، وسكن قعر بيته مشتغلا بالحزن والتعزية ، فجاء خزيمة بن ثابت الأنصاري ، وقال لقومه من الأنصار ما سمعه من
( 1 ) شرح نهج البلاغة للمعتزلي الشافعي : ج 6 ص 215 ، وإحقاق الحق : ج 2 ص 354 و 355 عن تحفة الأحباب للدشتكي .
( 2 ) تاريخ الأمم والملوك : ( ط دار المعارف ) ج 3 ص 202 . ( * )
- ص 282 -
حال علي ( ع ) ، وذكر أنه لا بد ممن يلي هذا الأمر وليس سواه قرشي يليق بذلك . فخاف الأنصار أن تشتد عليهم البلية ، ويلي هذا الأمر قرشي فظ ينتقم منهم للثارات الجاهلية والأضغان البدرية ، فتوجهوا إلى سعد بن عبادة سيد الأنصار وحضروا السقيفة ملتمسين منه قبول الخلافة ، فأبى سعد ذلك لمكان علي ( ع ) ، وأنه المنصوص بالخلافة عن الله تعالى ورسوله فلما سمع قريش بذلك - وكانوا منتهزين للفرصة - دلسوا في الأمر . وعجلوا في البيعة لأبي بكر إلخ . . . ( 1 ) " .
ثم قرأ رابعة : أن هذا الشخص قد ندم على إعراضه ، واستيقظ فيه هاجس الطمع من جديد ، فواجههم حين أتوه برفض طلبهم ، وبالإعلان بالنكير عليهم ، بل واجههم بالشتائم وبقواذع القول ، وقوارص الكلام ، بل أنبهم على هذه الخيانة العظيمة ، وعلى هذا الجريمة الجسيمة .
ثم قرأ أيضا : أنهم قد قابلوا الشتيمة بمثلها ، والشدة والعنف بمثله أيضا ، حتى تفاقمت الأمور إلى درجة الصدام ، والافتراق والالتحام ، بفعل حدة الغضب . فإنه أيضا سوف يقبل ويصدق ذلك ، ويرى أمامه صورة مكتملة ومنسجمة ، وسيقول في نفسه : إن الملك عقيم لما فيه من الجاه والمال والمناصب والمكاسب ، ولما فيه الكرامة والقداسة .
والكل يحب أن يحصل على حكم فيه كل هذا ، وسيتذرع لذلك بالحجج والبراهين ، ويحشد له الشواهد والدلائل ، وقد يظلم ويعتدي ويزور
( 1 ) إحقاق الحق : ج 2 ص 347 / 348 . ( * )
- ص 283 -
الحقائق في سبيل ذلك . إذن ، فلن يستطيع هذا الشخص أن يكتشف الحقيقة ، إذا عرض عليه ملك أو سلطان يتنازعه فريقان كل منهما يقول في ظروف كهذه : أنا المظلوم والمعتدى عليه ، والآخر هو الظالم وهو المهاجم ، لأن هذا الشخص - كما قلنا - لا يملك المعابير الكافية التي تمكنه من حصحصة الحق ، وتمييزه عن الباطل .
وقد عبر بعض المستشرقين عن هذه الحقيقة المهمة ، حينما قال : إنه لم يدرك مظلومية الإمام الحسين عليه السلام إلا من قتل طفله الرضيع ، وهو كلام صحيح ، أنه لا يملك مفتاحا يستطيع بواسطته أن يدخل إلى شخصية الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، ولا معيارا يعرفه الحق من الباطل في قضية الحسين ( عليه السلام ) إلا المعيار العاطفي والإنساني ، أما نحن فلدينا القرآن ، وكلام الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ولدينا مثل وقيم ، وحقائق ، نقيس بها الأمور ، ونعرف الحق من خلالها .
وهكذا يتضح : أنه لو كان علي عليه السلام هو الذي أجاب المهاجمين لضاع الحق لدى الكثيرين من الناس ، وهو ما لم يكن علي ( عليه السلام ) ليقدم على التفريط به في أي ظرف ، ولكانوا فعلوا ما أرادوه من اقتحام البيت ، وغيره من أمور ، وكانوا أعظم شراسة وأشد ضراوة ، وأكثر عنفا وفتكا بأهله ، ولوقع الناس في أعظم البلاء ، حيث تسد عليهم النافذة الوحيدة لمعرفة الحق خصوصا من كان منهم بعيدا عن أجواء المدينة ، فضلا عن الأجيال اللاحقة ، وإلى يومنا هذا ، وهل كان يمكن اكتشاف المحق من البطل ، والطامع ، المتغلب ، والمغتصب ، المهاجم من المظلوم ، والمضطهد ، والمقهور ، والمسلوب حقه ، والمكذوب
- ص 284 -
عليه بما راج آنئذ من شائعات وأباطيل ؟ نعم ، لو كان علي ( عليه السلام ) هو الذي أجاب المهاجمين لضاع الحق ، ولطمست الحقيقة . ولعل أحدا منا ، أو فقل : لعل الكثيرين منا لم يكونوا يتشيعون له ، ولا عرفوا حقه وصدقه ، ولكان لنا حديث آخر مع هذا الإسلام العزيز .
وقد كان علي عليه السلام إماما للأولين والآخرين وهو مسؤول عن تحصين الأجيال إلى يوم القيامة في وجه التضليل والتزوير ، ولا سيما فيما يمس عقائدهم ، وعليه أن يمنحهم الفرصة الحقيقية لاكتشاف هذا التزوير في أي موقع كان ، ومن أي كان .
لو أجابتهم فضة ؟ وحتى لو أن فضة هي التي أجابتهم على الباب ، فإن الأمر لا يختلف عما ذكرناه ، لأن إجابتها لن تعرف الناس على حقيقة ما يكن أولئك القوم من حرص على هذا الأمر ، وإصرار أكيد على ابتزاز وانتزاع الحق من صاحبه الشرعي ، وقد كان بإمكانهم إزاحتها عن طريقتهم بأسلوب لن يكون له دور في جلاء الصورة ، ولا في معرفة الحقيقة ، إذ يمكن أن يتهموها هي بأنها قد واجهتهم بطريقة غير مؤدبة ولا أخلاقية .
ولم يكن لفضة ذلك المقام الرفيع الذي كان للزهراء عليها السلام ، ولم يقل النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حقها : إن الله يغضب لغضبها .
أما الزهراء عليها السلام ، فهي المرأة المعصومة والمطهرة بنص
- ص 285 -
القرآن ، وهي التي يغضب الله لغضبها ويرضى لرضاها . فلولا الزهراء إذن ، لطمست معالم الدين ، ولحقق الحاقدون والمنافقون المتربصون بهذا الإسلام العزيز أغلى وأحلى أمنياتهم .
فالزهراء عليها السلام بخطواتها المعدودة تلك نحو الباب قد حصنت حق علي عليه السلام ، وحفظت الإمامة - لا الخلافة فقط - من التجني والتزوير . ثم هي قد مكنت الناس حتى غير المسلمين من اكتشاف الحقيقة ، سواء من عاش منهم في ذلك العصر ، أو الذين جاؤا ويجيئون بعد ذلك .
والتأمل في التاريخ يعطينا : أن كل إمام له دور رئيس في حفظ أساس الإسلام إلى درجة أنه لولاه لضاع الدين ضياعا حقيقيا ، فلولا تبليغ الإمامة يوم الغدير ، ولولا صلح الإمام الحسن ، ولولا استشهاد الإمام الحسين عليهما السلام .
ولا غرو إذا قلنا أيضا : لولا موقف الزهراء هذا ، الذي تعرضت فيه للأذى ، وللضرب وإسقاط الجنين ، لم يكن من هذا الإسلام إلا المظاهر والأسماء وإلا الأشكال والطقوس الجوفاء .
إستطراد ، أو مثال وشاهد : ونذكر هنا شاهدين اثنين ، يدخلان في نطاق ما ذكرناه من مسؤولية النبي والإمام عن تحصين الأمة عن أن تقع فريسة التزوير الإعلامي هما :
الأول : إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد طلب في مرض موته أن يأتوه بكتف ودواة ، ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده ، رغم أنه كان
- ص 286 -
قد نص على إمامة علي عليه السلام في كثير من المناسبات والمواقف قبل ذلك ، ولا سيما في يوم الغدير ، حيث أخذ له البيعة من الناس أيضا .
ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يحصن الأمة عن أن تقع فريسة التزوير ، حتى لا يقال لها : إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد عدل عن رأيه ، وقد استجدت أمور ، ونشأت ظروف اقتضت استبعاده عليه السلام عن هذا الأمر .
وقد أظهرت مبادرة النبي هذه حقيقة ما كان يكنه البعض في نفسه ، وما كانوا يبيتونه تجاه هذه القضية بالذات ، حين قيل ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يسمع : إن النبي ليهجر ، أو نحو ذلك .
ولم يعد مجال للتعلل بأن صحابته صلى الله عليه وآله وسلم أتقياء مخلصون ، يحترمون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ويحرصون على تنفيذ أوامره ، وكسب رضاه . فإن قولهم : إن النبي ليهجر ، قد أظهر مدى جرأتهم على الرسول الكريم ، فإذا كانت مطامعهم ومصالحهم تدعوهم إلى هذه الجرأة ، وإذا كانوا يواجهون أعظم نبي بهذا الأسلوب الجاف ، فهل يتورعون عن ضرب النساء ، وعن طمس الحقيقة في سبيل تحقيق أهدافهم ؟ !
الثاني : حمل الحسين عليه السلام معه النساء والأطفال إلى كربلاء حتى لا يدعي الحكام المجرمون إن اللصوص قتلوا الحسين ، أو أنه تاه في الصحراء ، فمات عطشا ، كما جرى لدليلي مسلم بن عقيل ، أو أن السباع قد افترسته أو ما إلى ذلك .
ثم يأتي هؤلاء المزورون ، ويشيعون جنازته بالاحترام والتبجيل ، مع إظهار مزيد من الحزن والأسى على فقده ، ويخدعون الناس بذلك ،
- ص 287 -
ويؤكدون نهجهم الانحرافي والإجرامي .
ولأجل ذلك أيضا ، خرج عليه السلام من مكة في يوم التروية ، مع أن المفروض هو أن يتوجه في هذا اليوم إلى عرفات ، مع العلم أن الحسين عليه السلام هو الوحيد الباقي من ذرية النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو الرمز ، وهو الذي يراه الناس مسؤولا عن حفظ هذا الدين ورعايته ، وتعليمهم أحكامه ، فكيف يخرج ويتركهم ، في يوم تبدأ فيه مراسم ، شعيرة هي من أعظم شعائر الإسلام ؟ ! فبدل أن يتوجه إلى عرفات يتوجه إلى جهة أخرى ! ! .
إن ذلك سوف يصرف الانتباه ، ويطرح الكثير من التساؤلات . إنه يخرج من مكة إلى غير مكة ، ومن قلب العالم الإسلامي النابض ، الذي يحتضن أعظم المقدسات الإسلامية إلى بلد آخر لا مقدسات فيه ، وهو يتركها في أيام الحج ، لا في أيام العادية ، وبالذات ، في أول يوم من أيامه ، والمفروض أن يكون هو أمير الناس ، وقائدهم ، ومرجعهم الذي يرجعون إليه ، ليعلمهم مناسك حجهم ، وأحكامه .
والحسين عليه السلام نفسه هو ذلك الشخص الذي تتمنى القلوب والعيون أن تراه ، ولو مرة في العمر ، فضلا عن السعادة الغامرة لكل مسلم بالتحدث إليه ، والجلوس بقربه .
ثم إنه عليه السلام يعلن للناس جميعا : أن الله شاء أن يراه قتيلا ، وعن النساء : إن شاء الله أن يراهن سبايا .
فهناك إذن جريمة ، وهي غير عادية ، إنها جريمة قتل لانسان عظيم ، وفي ظروف غير عادية . إنها جريمة تستهدف أعظم إنسان على
- ص 288 -
وجه الأرض ، وقتله في حرب مدمرة ، تقتل فيها الرجال كل الرجال من ذرية الرسول ، وكل من معهم ، وتسبى بنات الوحي وأهل بيت النبوة . إذن ، فلا بد أن يتساءل الناس عن هذا المجرم من هو ، وعن موقفهم ومسؤولياتهم تجاه هذه الواقع الخطير والمرير . . ولسوف ينتظرون نبأ الجريمة بفارغ الصبر .
فخروج الحسين ( ع ) لم يكن لأجل دنيا وسلطان ، ولا فرارا من خطر ، ولا للإستجمام والنزهة ، بل كان لمواجهة الخطر بأعظم مراتبه ، ومواجهة التحدي . والذين سمعوا من الحسين ( عليه السلام ) هذا القول ، وواجهوا هذا الحدث ، قد جاؤا من كل بقاع الإسلام ، وربما من كل مدينة وقرية ، ومن كل حي وشارع ، سيرجعون بذكريات تلامس مشاعرهم وعواطفهم ، وعقيدتهم ، وتهز ضمائرهم ، وتوقظ وجدانهم ، وسيتحدثون لزوارهم عن هذه الذكريات التي لا تزال نابضة بالحياة ، لأنها منذ بدايتها جعلتهم يعيشون حالة الترقب والانتظار .
وهذا ما سيضعف قدرة سلطات القهر والظلم على تزوير الحقيقة مهما حاولت ذلك ، وستبقى الشكوك وعلامات الاستفهام الكبيرة تواجه ذلك التزوير بقوة ، مهما كان خفيا وذكيا . فصلوات الله على الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين .
المخدرة لا تفتح الباب :
ويقول البعض : إذا كانت الزهراء ( ع ) مخدرة ، فكيف تبادر هي لفتح الباب ، فإن التي لا ترى الرجال ولا تقابل أحدا لا تفعل ذلك . .
والجواب :
- ص 272 -
أولا : هل المخدرة لا يحق لها أن تدافع عن نفسها ، لو هوجمت ، أو عن ولدها وزوجها ، أو عن شرفها ، أو دينها ، ورسالتها ؟ !
ثانيا : ألم تكن زينب أيضا مخدرة ؟ فلماذا أخرجها الإمام الحسين ( ع ) معه إلى كربلاء لتواجه السبي ، والمصائب ، وتواجه الرجال ، وتخطب في الكوفة ، وفي الشام أمام طواغيت وجبابرة الأرض في زمانها ؟ !
ثالثا : هل خدرها يمنعها من الإجابة من خلف الباب ، أو أن إجابتها هذه سوف تكشفها للناس ، ليروا ما لا يجوز لهم رؤيته منها ؟ !
رابعا : إذا كانت قد أجابتهم من خلف الباب ، فلا يعني ذلك أنها قد قابلتهم وجها لوجه ، فإذا كسروا الباب ، ولاذت خلفه رعاية للستر والحجاب ، وعصروها بين الباب والحائط ، فهل تكون هي المسؤولة عن ذلك ؟ ! . . ويؤيد ذلك أنه قد جاء في بعض النصوص : أنها عليها السلام قد مدت يديها من خلف الباب ، فضربوا كفيها بالسوط ( 1 ) .
خامسا : أليست هذه المخدرة نفسها قد خطبت الناس بالمسجد ، باعتراف هذا السائل نفسه ؟ ! وسمع صوتها القاصي والداني ؟ !
وهل الخدر للمرأة يمنعها من أن تدافع عن القضية العادلة ، وعن الحق لو انحصر بها الدفاع عنه واستلزم ذلك الجهر بالمظلومية ؟
ألم يستثن الفقهاء صورة الدفاع عن الحق ، من ممنوعية سماع صوت المرأة ، لو قيل بتحريمه ؟ !
( 1 ) البحار : ج 30 ص 293 - 295 . ( * )
- ص 273 -
وكيف يجوز لها أن تخطب الناس في المسجد ، ولا يجوز لها أن تجيب من خلف الباب ؟ !
وهل يمنعها خدرها من الدفاع عن الإمامة وكشف الحقيقة للأجيال حين انحصر إنجاز هذا الأمر الخطير بها عليها السلام ؟ .
هل خدرها يحجزها عن الوقوف في وجه الظالمين والغاصبين ، لتكشف للناس حقيقتهم ، وتظهر واقع نواياهم ، وجرأتهم على الله ورسوله ، وأنهم على استعداد للتعرض حتى للنساء ، بل حتى لأقدس امرأة ، وهي سيدة نساء العالمين ، والبنت الوحيدة لأعظم رسول ، حتى فور وفاته صلوات الله وسلامه عليه ؟
هل هناك بيان أفصح من هذا البيان ؟
وهل يمكن لولا ذلك معرفة الظالم من المظلوم ، والمهاجم من المدافع ؟
ومن الذي يضمن لنا أن لا يبادر من يجترئ على إهانة الزهراء ( ع ) ، والرسول ( ص ) ، حتى قيل له : إن النبي ليهجر ، من أن يقدم على تحريف الحقائق وتزويرها ؟ !
سادسا : إن هذا المعترض نفسه ينكر صحة حديث : خير للمرأة أن لا يراها الرجال ولا ترى الرجال ، ويستند في ذلك إلى ما ذكرناه من خطبتها عليها السلام في المسجد ، وبخروجها مع النساء في الحروب والغزوات ، وبكلامها مع أبي بكر وعمر حينما دخلا عليها ليسترضياها . فما معنى أن يستدل بذلك هنا ، وينكره هناك ؟ !
لماذا لا يفتح الباب الزبير ، أو فضة ؟
ومن الأمور المستغربة قول هذا البعض : كل الروايات تقول : لم يكن علي عليه السلام وحده في البيت
- ص 274 -
حينما هاجموه ليخرجوه ليبايع أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله ، بل كان معه " جميع بني هاشم " ، وكانت معهم فضة ، والزبير والعباس . فلماذا لم يفتح أحدهم الباب دونها ( ع ) ؟ .
والجواب : إن دعوى : " وجود جميع بني هاشم في داخل البيت وقت الحادثة "، غير معلومة الصحة، وذلك لما يلي:
أولا : إن النظام - كما ينقل عنه - يصرح بأن عمر " كان يصيح : أحرقوا دارها بمن فيها " ، وما كان في الدار غير علي ، وفاطمة والحسن والحسين عليهم سلام الله ( 1 ) .
وقوله : " ما كان في الدار الخ . . " سواء أكان من كلام النظام ، أو من كلام المؤلف فإنه كاف في ما نريده هناك ، وهو ينفي وجود فضة والزبير أيضا .
وثانيا : لو سلمنا وجود أشخاص آخرين في بعض الأحيان ، فإن الهجوم على بيت الزهراء ( ع ) ، قد كان أثر من مرة ، وقد ظهر ذلك صراحة في سياق الحديث الذي ورد في الإمامة والسياسة ( 2 ) .
وتدل عليه روايات عديدة أخرى خصوصا مع الجمع والمقارنة بينها ، وملاحظة خصوصيات الأحداث ، فإذا كان ثمة أشخاص في بيت الزهراء ( ع ) في الهجوم الأول ، فليس بالضرورة أن يكونوا موجودين في الهجوم الثاني ، أو الذي بعده . . وما هو الدليل الذي دل على ذلك ؟ .
( 1 ) الملل والنحل : ج 1 ص 84 ، والبحار : ج 28 ص 271 ، وبيت الأحزان : ص 124 .
( 2 ) الإمامة والسياسة : ج 1 ص 12 . ( * )
- ص 275 -
وثالثا : لا توجد رواية تقول : إن جميع بني هاشم كانوا في البيت ، نعم هم يقولون : إن بني هاشم قد قعدوا عن البيعة ، ولعل القائل قد اشتبه عليه الأمر ، فتخيل أنهم قعدوا عن البيعة في بيت علي عليه السلام ، ولم يلتفت إلى أن معنى " قعدوا " أنهم امتنعوا عنها ، لا جلسوا في بيت علي ( ع ) ، أو غيره ! !
ورابعا : بعض الروايات صرحت بوجود الزبير فقط ( 1 ) بالإضافة إلى علي وفاطمة والحسنين عليهم الصلاة والسلام ، ولم تذكر سوى هؤلاء . وبعض الروايات أشارت إلى وجود عدد أو جمع من بني هاشم لا جميعهم ( 2 ) .
وهذه الروايات وإن لم تكن متعارضة لعدم التعارض بين المثبتات ، ولكنها - خصوصا الأخيرة - تنفي وجود جميع بني هاشم في بيت فاطمة ( ع ) . وخامسا : البيت صغير ، لا يتسع لجميع بني هاشم ، ولا حتى لنصفهم ، خصوصا مع دفن النبي ( ص ) في ذلك البيت ، حيث لا بد من مراعاة حرمته أيضا .
وسادسا : إن الذي منع عليا عليه السلام ، وفضة ، والحسنين عليهما السلام من فتح الباب ، هو نفسه الذي منع الزبير ، وسائر بني هاشم من ذلك ، كما سيتضح في الإجابة على السؤال التالي إن شاء الله تعالى .
( 1 ) الأمالي للمفيد : ص 49 / 50 . ( 2 ) راجع : المفيد في الجمل ، ( ط جديد ) ص 117 / 118 . ( * )
- ص 276 -
لو أجابهم علي ( ع ) :
يزعم البعض : أنه قد كان على علي ( عليه السلام ) أن يفتح الباب ، أو تفتحه فضة أو غيرها . أما الزهراء ( عليها السلام ) ، فلا مبرر لمبادرتها هي لفتح الباب دونهم .
والجواب : هناك أمران ، لا بد من الحديث عنهما :
أحدهما : هل يمكن لعلي ( عليه السلام ) أو غيره أن يفتح الباب ؟ !
الثاني : لماذا لا بد للزهراء ( عليها السلام ) دون سواها أن تتولى هذا الأمر ؟
والإجابة على هذين السؤالين متداخلة ، ولأجل ذلك حررناها على النحو التالي :
أولا : لقد كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يأمر بعض زوجاته بفتح الباب للطارق ، كما تقدم ، فلا حرج مبدئيا من قيام الزهراء بمهمة إجابة الطارقين .
ثانيا : إن من الواضح : أن فتح علي عليه السلام للباب ، أو على الأقل إجابته للمهاجمين ولو من خلف الباب لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يفعل من يأمرونه به من المبادرة إلى بيعة صاحبهم - أعني أبا بكر - ، ويكون في هذه الحالة قد قدم ما يشبه الاعتراف بشرعية ما قاموا به ، بل هو يلغي كل دلالة على أن له حقا في هذا الأمر من
- ص 277 -
الأساس . وإما أن يقتصر على إجابة المهاجمين ، ثم الامتناع عن تلبية طلبهم ، وهذا سوف يدفع بالمهاجمين إلى مجادلته ، ومحاولة التأثير عليه بالكلمة القوية ، أو اللينة ، أو حتى محاولة إخراجه للبيعة بالقوة .
وذلك منه عليه السلام سوف يعطيهم الفرصة لتشويه الأمور ، وإظهارها على غير حقيقتها ، وادعاء ما يحلو لهم عليه ، بحيث يكسرونه ويشوهون الحقيقة للناس ، وهم المهيمنون والحاكمون ، وإليهم تتلع الأعناق الطامعة ، ويتزلف المتزلفون .
إنهم سوف يقولون للناس : لقد جئنا للتعزية والسؤال عن الحال ، ولكن عليا ( عليه السلام ) هو الذي واجهنا بالكلمة اللاذعة ، أو بالعنف ، حسدا منه لنا ، واعتدادا بنفسه ، وإدلالا بمواقفه ، وبقوته ، وبقرابته من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثم بفروسيته ، وبكونه زوج بنت الرسول ، وأبا السبطين ، فهو المعتدي ونحن الضحية ، وهو الحاسد والحاقد ، والمهاجم والمغرور ، وهو الطامع في أمر كان هو بنفسه قد أعلن انصرافه عنه ، حيث إنهم كانوا قد أشاعوا عنه بين الناس ، وهو منشغل بتجهيز رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنه لا يريد هذا الأمر ، كما يدل عليه قول المنذر بن أرقم في السقيفة ، حينما رجحت كفة أبي بكر على سعد ، واختلف الأنصار فيما بينهم ، وتنازعوا : " إن فيهم لرجلا ، لو طلب هذا الأمر ، لم ينازعه فيه أحد ، يعني علي ابن أبي طالب ( عليه السلام ) " ( 1 ) .
( 1 ) تاريخ اليعقوبي : ج 2 ص 123 . ( * )
- ص 278 -
وفي رسالة ذكر أن عمر بن الخطاب كتبها إلى معاوية ، يقول فيها عن أبي بكر : " وقدمت الناس إلى بيعته وصحبته ، لأرهبه وكل من ينكر بيعته ، ويقول : ما فعل علي بن أبي طالب ؟ فأقول : خلعها من عنقه ، وجعلها طاعة للمسلمين ، قلة خلاف عليهم ، فصار جليس بيته " ( 1 ) .
نعم إنهم سيقولون للناس : إذا كان علي عليه السلام قد انصرف عن هذا الأمر ، وإذا كان لا بد من ضبط الأمور ، خوفا من الفتنة ، فقد بادرنا إلى ذلك حفاظا على الإسلام ، ولكي نحفظ للأمة وحدتها ، وللناس كراماتهم ، وانتظام أمور حياتهم ، لأننا نريد الخير للناس ، والزلفى والقرب من الله ، ولا شئ سوى ذلك ، وحين واجهنا بالعنف ، لم يكن أمامنا خيار ، إلا أن اعتقلناه درءا للفتنة ، وحفاظا على الدين والأمة .
ومن الذي يستطيع أن ينكر عليهم ما يدعون ، ويرى الناس أنهم حكام متسلطون ، ولدى الحكام عادة السياط والسيوف إلى جانبها الأموال ، والمناصب ، وبإمكانهم تلبية المطامح والمآرب ، ويبقى إعلامهم هو الأعلى صوتا ، لأنه يضرب بسيوف المال والجاه ، والجبروت ، والأطماع ، والهوى ، وهناك الحقد الظالم من الكثيرين على علي ( عليه السلام ) وعلى كل من يلوذ به ، أو ينسب إليه .
وعليهم أن يستفيدوا من هذه الأحقاد أيضا لتثبيت أمرهم ، وتقوية سلطانهم . وحين أجابتهم فاطمة عليها السلام ، كان جوابها المفاجأة التي ضيعت عليهم الفرصة التي رأوها سانحة ، فواجهوها بالعنف والقوة ،
( 1 ) البحار : ج 3 ، ص 292 - 294 . ( * )
- ص 279 -
وبانفعال ورعونة ، حيث بادروها بالهجوم الشرس ، الذي ينم عن حنق لا مبرر له إلا الإصرار على انتزاع هذا الأمر بالقوة ، حتى ولو كان بقيمة قتل " المحسن " ، وهتك حرمة بيتها ( عليها السلام ) والاعتداء عليها بالضرب المبرح ، وهي امرأة ليست هي بالطامعة ، ولا الحاسدة ، ولا المغرورة بنفسها ، ولا الحاقدة ، ولا المشاغبة ، إنها امرأة جاءت لترى من الطارق ؟
ولم تكن بصدد إطلاق الكلمات الرعناء بلا حساب ، بل لا مبرر لأن تفعل ذلك ابتداء ، وهي المرأة المثكولة بأبيها أعظم نبي وجد في هذا العالم ، وقد أخرجهم من الظلمات إلى النور ، وهي ابنته الوحيدة ، والإنسانة المميزة التي هي أفضل نساء العالمين من الأولين والآخرين ، وهي التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها .
فلو أنهم حين جاؤا قد تكلموا بالكلام اللين والمهذب ، وقالوا لها : كيف أصبحت يا بنت رسول الله ؟ لقد جئنا للاطمئنان على حالكم ، وللسؤال عن صحتكم ، ولنعزيكم برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فهل تأذنين لنا بزيارتكم لمباسطة علي ومؤانسته ، والاطلاع على أحواله ، فهل كانت الزهراء ستواجههم بغير الخلق الرضي ، والكلمة الطيبة ، وبغير التأهيل والترحيب ؟ ! ثم تطالبهم وتحتج عليهم في ما يحاولونه من اغتصاب أمر الخلافة ، أو يطالبهم علي ( عليه السلام ) بذلك بحكمة وأناة بعيدا عن أجواء العنف والقهر ، واستعمال السيوف والسياط .
ولكن الحقيقة هي : أن هؤلاء كانوا يريدون الاستعجال بأخذ البيعة من علي ( عليه السلام ) ، إذ أنهم سرعان ما سيظهر عدم صحة ما قالوه للناس ، وأن عليا ( عليه السلام ) لم ينصرف عن هذا الأمر ، فبماذا يجيبون الناس على سؤال : لقد بايعتم أمس عليا ( عليه السلام ) في يوم
- ص 280 -
الغدير ، ثم قلتم لنا : إنه قد استقال من هذا الأمر ، وها قد ظهر خلاف ما ادعيتم ، فكان أن أسرعوا إلى علي ( عليه السلام ) ليأخذوا البيعة منه بالقوة وبطريقة إرهابية ، ليتلافوا أي حجاج أو احتجاج يحرجهم ، ويفضح ما لا يحبون فضحه ، كما أنهم بهذا الجو الإرهابي يظهرون عليا ( عليه السلام ) على أنه متمرد على الشرعية ، وخارج على القانون .
فكان موقف الزهراء ( ع ) مفاجئا لهم فقد أفقدهم القدرة على التصرف المناسب وضيع عليهم ما جاؤا لأجله ، فتصرفوا معها برعونة وبانفعال وحقد ، وتسببت في فضح أمرهم ، وهتم المستور من نواياهم وخباياهم ، فأين هي التقوى التي يدعونها ، وحب الخير الذي يزعمونه ؟ ! وعرف الناس حقيقة ما أرادوه من وأد الفتنة ، وإقامة شرع الله وأحكام الدين الذي يتذرعون به .
إن ما فعلوه مع الزهراء ( عليها السلام ) ، قد أفقدهم القدرة على تلميع الصورة ، وكان فتح الزهراء للباب ضربة موفقة محقت كل كيد وزيف ، وأبطلت كل تزوير أو تحوير للوقائع والحقائق . وكيف يمكن تحصين الأجيال من التزوير الإعلامي ، الذي قد يمارسه الحكام بكل ما يملكون من طاقات وإمكانات سلطوية ومادية ؟ ! .
لقد قتل المأمون أخاه الأمين ، ثم صورة إعلامه أنه إنسان تافه ، جاهل وأحمق ، بل ومتخلف عقليا ، ولم يزل الباحثون يعتقدون فيه نفس هذا الاعتقاد الذي أوحى به المأمون للناس ، مع أن الحقيقة هي أنه كان على عكس ذلك تماما ، لكن ذنبه : أنه هزم وقتل . وإذا كنا نحن نملك معابيره تمكننا من اكتشاف كثير من الحقائق
- ص 281 -
فيها يرتبط بما ينسبونه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة ( عليه السلام ) وغيرهم ، لتصديقنا بالقرآن الذي هو ميزان ومعيار ، وكذلك الحال بالنسبة للرسول ( صلى الله عليه وآله ) ولأمور أخرى ، فإن غيرنا ممن لا يدين بالإسلام ، إذا أراد أن يكتشف الحقيقة من خلال دراسة الشواهد التاريخية المتوفرة لديه ، فسيصعب عليه ذلك جدا .
لأنه إذا قرأ : أن هناك إنسانا يهتف النبي ( صلى الله عليه وآله ) باسمه ، ويقول هو وليكم بعدي ، ويهتف الخلق ولا سيما الأنصار باسمه ( 1 ) ، ويقولون في السقيفة ، لا نبايع إلا عليا ( 2 ) ، وهو العالم الشجاع ، القوي المجاهد ، صاحب المواقف الكبرى ، والتضحيات الجسام ، وهو صهر النبي وربيبه ، وابن عمه وحبيبه الخ . . .
وقرأ في المقابل : أن مناوئيه ( عليه السلام ) قد اغتنموا فرصة غيابه عن الساحة ، واختصوا بالأمر لأنفسهم ثم جاؤا إلى بيته وطالبوه بأن يقر لهم بما اغتصبوه ، ويسلم ويعترف لهم ، ويخضع لما أرادوه . .
ثم قرأ ثالثة : ما يدل على وجود شائعات راجت بين الناس تقول : إن صاحب هذا الأمر قد انصرف عنه ، ولم يعد يطلبه لأسباب خاصة أو عامة .
قال المحقق القاضي نور الله التستري : " أوقع بعض المنحرفين عن علي في قلوب الناس أنه ( ع ) قد تقاعد عن تصدي الخلافة لشدة ما أصابه من مصيبة النبي ( ص ) ، وسكن قعر بيته مشتغلا بالحزن والتعزية ، فجاء خزيمة بن ثابت الأنصاري ، وقال لقومه من الأنصار ما سمعه من
( 1 ) شرح نهج البلاغة للمعتزلي الشافعي : ج 6 ص 215 ، وإحقاق الحق : ج 2 ص 354 و 355 عن تحفة الأحباب للدشتكي .
( 2 ) تاريخ الأمم والملوك : ( ط دار المعارف ) ج 3 ص 202 . ( * )
- ص 282 -
حال علي ( ع ) ، وذكر أنه لا بد ممن يلي هذا الأمر وليس سواه قرشي يليق بذلك . فخاف الأنصار أن تشتد عليهم البلية ، ويلي هذا الأمر قرشي فظ ينتقم منهم للثارات الجاهلية والأضغان البدرية ، فتوجهوا إلى سعد بن عبادة سيد الأنصار وحضروا السقيفة ملتمسين منه قبول الخلافة ، فأبى سعد ذلك لمكان علي ( ع ) ، وأنه المنصوص بالخلافة عن الله تعالى ورسوله فلما سمع قريش بذلك - وكانوا منتهزين للفرصة - دلسوا في الأمر . وعجلوا في البيعة لأبي بكر إلخ . . . ( 1 ) " .
ثم قرأ رابعة : أن هذا الشخص قد ندم على إعراضه ، واستيقظ فيه هاجس الطمع من جديد ، فواجههم حين أتوه برفض طلبهم ، وبالإعلان بالنكير عليهم ، بل واجههم بالشتائم وبقواذع القول ، وقوارص الكلام ، بل أنبهم على هذه الخيانة العظيمة ، وعلى هذا الجريمة الجسيمة .
ثم قرأ أيضا : أنهم قد قابلوا الشتيمة بمثلها ، والشدة والعنف بمثله أيضا ، حتى تفاقمت الأمور إلى درجة الصدام ، والافتراق والالتحام ، بفعل حدة الغضب . فإنه أيضا سوف يقبل ويصدق ذلك ، ويرى أمامه صورة مكتملة ومنسجمة ، وسيقول في نفسه : إن الملك عقيم لما فيه من الجاه والمال والمناصب والمكاسب ، ولما فيه الكرامة والقداسة .
والكل يحب أن يحصل على حكم فيه كل هذا ، وسيتذرع لذلك بالحجج والبراهين ، ويحشد له الشواهد والدلائل ، وقد يظلم ويعتدي ويزور
( 1 ) إحقاق الحق : ج 2 ص 347 / 348 . ( * )
- ص 283 -
الحقائق في سبيل ذلك . إذن ، فلن يستطيع هذا الشخص أن يكتشف الحقيقة ، إذا عرض عليه ملك أو سلطان يتنازعه فريقان كل منهما يقول في ظروف كهذه : أنا المظلوم والمعتدى عليه ، والآخر هو الظالم وهو المهاجم ، لأن هذا الشخص - كما قلنا - لا يملك المعابير الكافية التي تمكنه من حصحصة الحق ، وتمييزه عن الباطل .
وقد عبر بعض المستشرقين عن هذه الحقيقة المهمة ، حينما قال : إنه لم يدرك مظلومية الإمام الحسين عليه السلام إلا من قتل طفله الرضيع ، وهو كلام صحيح ، أنه لا يملك مفتاحا يستطيع بواسطته أن يدخل إلى شخصية الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، ولا معيارا يعرفه الحق من الباطل في قضية الحسين ( عليه السلام ) إلا المعيار العاطفي والإنساني ، أما نحن فلدينا القرآن ، وكلام الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ولدينا مثل وقيم ، وحقائق ، نقيس بها الأمور ، ونعرف الحق من خلالها .
وهكذا يتضح : أنه لو كان علي عليه السلام هو الذي أجاب المهاجمين لضاع الحق لدى الكثيرين من الناس ، وهو ما لم يكن علي ( عليه السلام ) ليقدم على التفريط به في أي ظرف ، ولكانوا فعلوا ما أرادوه من اقتحام البيت ، وغيره من أمور ، وكانوا أعظم شراسة وأشد ضراوة ، وأكثر عنفا وفتكا بأهله ، ولوقع الناس في أعظم البلاء ، حيث تسد عليهم النافذة الوحيدة لمعرفة الحق خصوصا من كان منهم بعيدا عن أجواء المدينة ، فضلا عن الأجيال اللاحقة ، وإلى يومنا هذا ، وهل كان يمكن اكتشاف المحق من البطل ، والطامع ، المتغلب ، والمغتصب ، المهاجم من المظلوم ، والمضطهد ، والمقهور ، والمسلوب حقه ، والمكذوب
- ص 284 -
عليه بما راج آنئذ من شائعات وأباطيل ؟ نعم ، لو كان علي ( عليه السلام ) هو الذي أجاب المهاجمين لضاع الحق ، ولطمست الحقيقة . ولعل أحدا منا ، أو فقل : لعل الكثيرين منا لم يكونوا يتشيعون له ، ولا عرفوا حقه وصدقه ، ولكان لنا حديث آخر مع هذا الإسلام العزيز .
وقد كان علي عليه السلام إماما للأولين والآخرين وهو مسؤول عن تحصين الأجيال إلى يوم القيامة في وجه التضليل والتزوير ، ولا سيما فيما يمس عقائدهم ، وعليه أن يمنحهم الفرصة الحقيقية لاكتشاف هذا التزوير في أي موقع كان ، ومن أي كان .
لو أجابتهم فضة ؟ وحتى لو أن فضة هي التي أجابتهم على الباب ، فإن الأمر لا يختلف عما ذكرناه ، لأن إجابتها لن تعرف الناس على حقيقة ما يكن أولئك القوم من حرص على هذا الأمر ، وإصرار أكيد على ابتزاز وانتزاع الحق من صاحبه الشرعي ، وقد كان بإمكانهم إزاحتها عن طريقتهم بأسلوب لن يكون له دور في جلاء الصورة ، ولا في معرفة الحقيقة ، إذ يمكن أن يتهموها هي بأنها قد واجهتهم بطريقة غير مؤدبة ولا أخلاقية .
ولم يكن لفضة ذلك المقام الرفيع الذي كان للزهراء عليها السلام ، ولم يقل النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حقها : إن الله يغضب لغضبها .
أما الزهراء عليها السلام ، فهي المرأة المعصومة والمطهرة بنص
- ص 285 -
القرآن ، وهي التي يغضب الله لغضبها ويرضى لرضاها . فلولا الزهراء إذن ، لطمست معالم الدين ، ولحقق الحاقدون والمنافقون المتربصون بهذا الإسلام العزيز أغلى وأحلى أمنياتهم .
فالزهراء عليها السلام بخطواتها المعدودة تلك نحو الباب قد حصنت حق علي عليه السلام ، وحفظت الإمامة - لا الخلافة فقط - من التجني والتزوير . ثم هي قد مكنت الناس حتى غير المسلمين من اكتشاف الحقيقة ، سواء من عاش منهم في ذلك العصر ، أو الذين جاؤا ويجيئون بعد ذلك .
والتأمل في التاريخ يعطينا : أن كل إمام له دور رئيس في حفظ أساس الإسلام إلى درجة أنه لولاه لضاع الدين ضياعا حقيقيا ، فلولا تبليغ الإمامة يوم الغدير ، ولولا صلح الإمام الحسن ، ولولا استشهاد الإمام الحسين عليهما السلام .
ولا غرو إذا قلنا أيضا : لولا موقف الزهراء هذا ، الذي تعرضت فيه للأذى ، وللضرب وإسقاط الجنين ، لم يكن من هذا الإسلام إلا المظاهر والأسماء وإلا الأشكال والطقوس الجوفاء .
إستطراد ، أو مثال وشاهد : ونذكر هنا شاهدين اثنين ، يدخلان في نطاق ما ذكرناه من مسؤولية النبي والإمام عن تحصين الأمة عن أن تقع فريسة التزوير الإعلامي هما :
الأول : إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد طلب في مرض موته أن يأتوه بكتف ودواة ، ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده ، رغم أنه كان
- ص 286 -
قد نص على إمامة علي عليه السلام في كثير من المناسبات والمواقف قبل ذلك ، ولا سيما في يوم الغدير ، حيث أخذ له البيعة من الناس أيضا .
ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يحصن الأمة عن أن تقع فريسة التزوير ، حتى لا يقال لها : إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد عدل عن رأيه ، وقد استجدت أمور ، ونشأت ظروف اقتضت استبعاده عليه السلام عن هذا الأمر .
وقد أظهرت مبادرة النبي هذه حقيقة ما كان يكنه البعض في نفسه ، وما كانوا يبيتونه تجاه هذه القضية بالذات ، حين قيل ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يسمع : إن النبي ليهجر ، أو نحو ذلك .
ولم يعد مجال للتعلل بأن صحابته صلى الله عليه وآله وسلم أتقياء مخلصون ، يحترمون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ويحرصون على تنفيذ أوامره ، وكسب رضاه . فإن قولهم : إن النبي ليهجر ، قد أظهر مدى جرأتهم على الرسول الكريم ، فإذا كانت مطامعهم ومصالحهم تدعوهم إلى هذه الجرأة ، وإذا كانوا يواجهون أعظم نبي بهذا الأسلوب الجاف ، فهل يتورعون عن ضرب النساء ، وعن طمس الحقيقة في سبيل تحقيق أهدافهم ؟ !
الثاني : حمل الحسين عليه السلام معه النساء والأطفال إلى كربلاء حتى لا يدعي الحكام المجرمون إن اللصوص قتلوا الحسين ، أو أنه تاه في الصحراء ، فمات عطشا ، كما جرى لدليلي مسلم بن عقيل ، أو أن السباع قد افترسته أو ما إلى ذلك .
ثم يأتي هؤلاء المزورون ، ويشيعون جنازته بالاحترام والتبجيل ، مع إظهار مزيد من الحزن والأسى على فقده ، ويخدعون الناس بذلك ،
- ص 287 -
ويؤكدون نهجهم الانحرافي والإجرامي .
ولأجل ذلك أيضا ، خرج عليه السلام من مكة في يوم التروية ، مع أن المفروض هو أن يتوجه في هذا اليوم إلى عرفات ، مع العلم أن الحسين عليه السلام هو الوحيد الباقي من ذرية النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو الرمز ، وهو الذي يراه الناس مسؤولا عن حفظ هذا الدين ورعايته ، وتعليمهم أحكامه ، فكيف يخرج ويتركهم ، في يوم تبدأ فيه مراسم ، شعيرة هي من أعظم شعائر الإسلام ؟ ! فبدل أن يتوجه إلى عرفات يتوجه إلى جهة أخرى ! ! .
إن ذلك سوف يصرف الانتباه ، ويطرح الكثير من التساؤلات . إنه يخرج من مكة إلى غير مكة ، ومن قلب العالم الإسلامي النابض ، الذي يحتضن أعظم المقدسات الإسلامية إلى بلد آخر لا مقدسات فيه ، وهو يتركها في أيام الحج ، لا في أيام العادية ، وبالذات ، في أول يوم من أيامه ، والمفروض أن يكون هو أمير الناس ، وقائدهم ، ومرجعهم الذي يرجعون إليه ، ليعلمهم مناسك حجهم ، وأحكامه .
والحسين عليه السلام نفسه هو ذلك الشخص الذي تتمنى القلوب والعيون أن تراه ، ولو مرة في العمر ، فضلا عن السعادة الغامرة لكل مسلم بالتحدث إليه ، والجلوس بقربه .
ثم إنه عليه السلام يعلن للناس جميعا : أن الله شاء أن يراه قتيلا ، وعن النساء : إن شاء الله أن يراهن سبايا .
فهناك إذن جريمة ، وهي غير عادية ، إنها جريمة قتل لانسان عظيم ، وفي ظروف غير عادية . إنها جريمة تستهدف أعظم إنسان على
- ص 288 -
وجه الأرض ، وقتله في حرب مدمرة ، تقتل فيها الرجال كل الرجال من ذرية الرسول ، وكل من معهم ، وتسبى بنات الوحي وأهل بيت النبوة . إذن ، فلا بد أن يتساءل الناس عن هذا المجرم من هو ، وعن موقفهم ومسؤولياتهم تجاه هذه الواقع الخطير والمرير . . ولسوف ينتظرون نبأ الجريمة بفارغ الصبر .
فخروج الحسين ( ع ) لم يكن لأجل دنيا وسلطان ، ولا فرارا من خطر ، ولا للإستجمام والنزهة ، بل كان لمواجهة الخطر بأعظم مراتبه ، ومواجهة التحدي . والذين سمعوا من الحسين ( عليه السلام ) هذا القول ، وواجهوا هذا الحدث ، قد جاؤا من كل بقاع الإسلام ، وربما من كل مدينة وقرية ، ومن كل حي وشارع ، سيرجعون بذكريات تلامس مشاعرهم وعواطفهم ، وعقيدتهم ، وتهز ضمائرهم ، وتوقظ وجدانهم ، وسيتحدثون لزوارهم عن هذه الذكريات التي لا تزال نابضة بالحياة ، لأنها منذ بدايتها جعلتهم يعيشون حالة الترقب والانتظار .
وهذا ما سيضعف قدرة سلطات القهر والظلم على تزوير الحقيقة مهما حاولت ذلك ، وستبقى الشكوك وعلامات الاستفهام الكبيرة تواجه ذلك التزوير بقوة ، مهما كان خفيا وذكيا . فصلوات الله على الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين .
مواضيع مماثلة
» الفصل السابع : لماذا تفتح الزهراء ( ع ) الباب
» أيخافون من فتح الباب وهم مسلحون ؟ !
» الباب الأول : الزهراء ومأساتها
» لمحبي داحي الباب (عليه السلام)
» أيخافون من فتح الباب وهم مسلحون ؟ !
» الباب الأول : الزهراء ومأساتها
» لمحبي داحي الباب (عليه السلام)
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى