كل الفكر الإسلامي ( فكر بشري ) عدا البديهيات
صفحة 1 من اصل 1
كل الفكر الإسلامي ( فكر بشري ) عدا البديهيات
مأساة الزهراء عليها السلام ج 1 - العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي - ص 45
كل الفكر الإسلامي ( فكر بشري ) ما عدا البديهيات
وفي حديث لنا مع بعض المسئولين في المركز الإسلامي الثقافي ، نجده يعترض علينا ، فيقول ما مفاده : إن الحقيقة ليست ملكا لأحد ، فلا يستطيع أحد حتى المجتهد أن يدعي أنه يملك الحقيقة كل الحقيقة . والإسلام باستثناء البديهيات عبارة عن اجتهادات بشرية في فهم النصوص ، فكل التراث الفقهي فكر بشري وليس إلهيا .
وعليه فلا معنى لإصدار أحكام قاسية - كما هو الحال في كتاب مأساة الزهراء ( ع ) - ضد من يخالف في الرأي ، فالحقيقة ليست ملكا لأحد . بل يقول البعض أيضا : إن الحقيقة نسبية ! !
- ص 46 -
ولم نكن نريد التعرض إلى هذا الاعتراض لو لا أننا وجدنا أخيرا هذا البعض قد سجل ذلك بصورة أكثر وضوحا في بعض مؤلفاته . . فإنه بعد أن ذكر : أنه ليس من شك في أن القرآن كتاب الله ، ولكن كلمات القرآن تبقى خاضعة لاجتهاد المفسرين والعلماء .
بعد أن ذكر ذلك في جملة كلام له ، قال : " ونحن نعتقد ، من خلال ذلك ، أن كل ما جاءنا من تراث فقهي ، وكلامي ، وفلسفي ، هو نتاج المجتهدين والفقهاء والفلاسفة والمفكرين ، من خلال معطياتهم الفكرية .
ولا يمثل الحقيقة إلا بمقدار ما نقتنع به من تجسيده للحقيقة ، على أساس ما نملكه من مقاييس الحقيقة ، وبهذا فإننا نعتبر أن كل الفكر الإسلامي - ما عدا الحقائق الإسلامية البديهية - هو فكر بشري ، وليس فكرا إلهيا ، قد يخطئ فيه البشر في ما يفهمونه من كلام الله وكلام رسول الله ( ص ) ، وقد يصيبون .
وعلى هذا الأساس فإننا نعتقد أنه من الضروري جدا أن ننظر إلى التراث المنطلق من اجتهادات المفكرين - أينما كانت مواقع تفكيرهم - نظرة بعيدة عن القداسة في حياتهم ومؤهلاتهم الروحية والعملية في حياة الناس الآخرين فيمن قد يكونون على مستوى المراجع أو الأولياء في تقواهم لله سبحانه وتعالى ، لأن ذلك شئ ومسألة الفكر شئ آخر .
ولذلك فإننا ندعو إلى دراسة
- ص 47 -
التراث دراسة ناقدة ، نعيش فيها شخصيتنا الفكرية ، ونعيش فيها انفتاحنا الفكري الذي عاشه الأقدمون في ما مارسوه من تجربتهم الفكرية " ( 1 ) .
ونقول : إن هذا الاعتراض - وإن كان ظاهر البطلان - ولكنه مع ذلك يعتبر على درجة عالية من الخطورة ، وذلك يجعله أكثر الإعتراضات أهمية وحساسية . . ونحن نذكر هنا بعض المآخذ .
على أن تستكمل هذه المؤاخذات في فرصة أخرى ، يمكن معها التوسع في البيان والمعاني .
فنقول :
1 - إذا كان كل ذلك بشريا ، - باستثناء بديهيات محدودة منه - عبر عنها البعض البعض بالثابت - كالتوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، ومسلمات الشريعة ، مثل : وجوب الصلاة ، والصوم ، والجهاد ، والحج ، والزكاة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتحريم الزنا والسرقة ، والخمر ، والميسر ، والنميمة ، واللواط ، والغيبة وقتل النفس المحرمة ، ونحوها مما لا يخرج عن دائرة العناوين العامة جدا ، دون تفاصيلها ، فإن التفاصيل تدخل في نطاق الاجتهادات الشخصية البشرية ، غير الإلهية وهو ما عبر عنه
( 1 ) راجع : حوارات في الفكر والسياسة والاجتماع : ص 480 . عن مجلة الموسم : عدد 8 سنة 1990 م . ( * )
- ص 48 -
البعض بالمتحول ( 1 ) .
إذا كان كذلك ، فلماذا ندعو غير المسلمين للدخول في الإسلام ، فهل ندعوهم لخصوص هذه البديهيات في عناوينها العامة والغائمة ، واليسيرة جدا ؟ أم ندعوهم إلى وجهات نظر أشخاص ، هم بشر مثلهم ؟ ! .
وحين يقال : إن علينا أن نقدم الإسلام للآخرين باعتباره دينا ، وفكرا ، وقانونا قادرا على حل جميع المشكلات ، وهو النموذج الأمثل للبشر جميعا ، وفي كل مجال ، فأي إسلام نقدم ؟ هل نقدم خصوص البديهيات ؟ أم نقدم الفكر البشري ، ونقول لهم : هذا الفكر البشري هو الإسلام الذي أنزله الله تعالى لعباده ؟ ! وأي فكر من أفكار هؤلاء البشر نقدم للناس ؟
2 - إن كان المقصود بالبديهي هو الذي لم يناقش أحد فيه ، فإن ذلك لا يصح ، وذلك لأن وجود النقاش في أمر من الأمور لا يعني صيرورته فكرا بشريا ، وقد ناقش الكثيرون في وجود الله ، بل أنكروه ، ويناقش غير المسلمين في نبوة النبي ( ص ) ، ولا يعني ذلك صيرورتهما فكرا بشريا ، وتناقش طوائف كثيرة في فكرة الإمامة ، ولا يعني ذلك صيرورتها فكرا بشريا ، ويناقش كثيرون في حقائق دينية وأحكام شرعية ، ولا يعني ذلك أن تصبح تلك الأحكام أو الحقائق فكرا بشريا .
( 1 ) راجع مقالة الأصالة والتجديد في مجلة المنهاج : العدد الثاني : ص 60 . ( * )
- ص 49 -
خذ مثلا على ذلك محاولة البعض تحليل نظر الرجل إلى عورة الرجل ونظر المرأة إلى عورة المرأة ( 1 ) ، مع أن حرمة ذلك من الأمور القطعية ، وهذا الحكم بالحلية من قبل البعض لا يجعل هذا الحكم الثابت - أعني الحرمة - فكرا بشريا .
وإن كان المقصود بالبديهي هو الأمر الذي ، يعرف وجه الحق فيه بمجرد التوجه والإلتفات إليه . . فإن من الواضح : أن الحقيقة الإسلامية وإن لم تكن بديهية في نفسها ، أو لم تكن بديهية عند البعض بهذا المعنى ، ولكنها لما كانت تنال بواسطة الأمارات والحجج والأدلة الشرعية عليها ، فاستخراج الحقيقة من الدليل ، أو تحصيل الإجماع عليها بعد بذل الجهد والعناء الطويل لا يجعلها فكرا بشريا . لمجرد أنها ليست من الأمور البديهية .
وكذا الحال لو لم تكن بديهية عند البعض كمثال النظر إلى العورة المذكور آنفا .
غير أن بعض الأحكام أو بعض الأمور قد لا يكون الدليل عليها حاسما وقاطعا فإذا أخطأتها الأمارات والأدلة التي لسانها لسان الكاشفية ، صار المكلف معذورا في مخالفته للحكم الواقعي أمام الله سبحانه وتعالى ، غير أن العمل وفق القواعد المقررة شرعا يجعل جميع النتائج متصفة بصفة الإسلامية والإلهية ، حتى
( 1 ) راجع : كتاب النكاح : ج 1 ص 66 . ( * )
- ص 50 -
وإن لم يصب الحكم الواقعي فإن صحة العمل لتحصيل العذر أمام الله تعالى من خلال تطبيقه على الوسائل المجعولة والمنصوبة من قبل الشرع هو حكم إلهي وليس فكرا بشريا فقولهم : إن البديهيات فقط هي التي تتصف بكونها فكرا إلهيا لا يصح ( لو صح استعمال كلمة : فكر إلهي ) .
أما حيث يكون التكليف هو العمل بالوظيفة الشرعية ، أو إجراء الأصول في مواردها ، فإن ذلك يكون هو الحكم الإلهي في حق المكلف ، وهو فكر إلهي - على حد تعبير البعض - لا بشري ، لأن الله هو الذي عين له العمل بهذه الوظيفة ، أو بذلك الأصل في أمثال تلك الموارد . فالمورد يتصف بالشرعية والإسلامية والإلهية لكونه من الموارد المقررة إلهيا وإسلاميا لهذه الحالة وللحالات المماثلة .
3 - إننا نفهم بعمق محاولة البعض إظهار التشيع على أنه فكر بشري حيث يقول : " لتكون المسألة السنية والشيعية مسألة مدرستين في فهم الإسلام " ( 1 ) وأن التشيع مجرد وجهة نظر حين يقول : " وقد تكون القضية المطروحة هي أن لا يكون التشيع فيما هو التشيع وجهة نظر * في خط الإسلام حالة معزولة عن الواقع العام للمسلمين ، الخ . . " ( 2 ) .
( 1 ) مجلة المرشد : العددان : 3 و 4 ص 68 . ( 2 ) تأملات في مواقف الإمام الكاظم " ع " : ص 94 . ( * )
- ص 51 -
ثم يجعل الإمامة ، من " المتحول الذي يتحرك في عالم النصوص الخاضعة في توثيقها ومدلولها للاجتهاد ، مما لم يكن صريحا بالمستوى الذي لا مجال لاحتمال الخلاف فيه ، ولم يكن موثوقا بالدرجة التي لا يمكن الشك فيه .
وهذا هو الذي عاش المسلمون الجدال فيه كالخلافة والإمامة ، والحسن والقبح العقليين الخ . . " ( 1 ) .
فإن ذلك يستبطن استبعاد النص على الإمامة ، واعتبار الإمامة بل التشيع كله ، اجتهادا بشريا جاء به الأئمة ( ع ) كأي اجتهاد بشري آخر جاء به الآخرون وليس فكرا إلهيا ، لأن الإمامة ليست من البديهيات عند بعض المسلمين ، منذ وفاة الرسول ( ص ) على حد زعم البعض ، فهي إذن فكر بشري قابل للاجتهاد وليس إلهيا - على حد تعبير البعض - .
ولو كان بديهيا لزم خروجهم عن الإسلام الأمر الذي لا يلتزم هو به . وهل وجود شبهة في أمر بديهي لدى البعض يجعل البديهي وجهة نظر ؟ ويجعله فكرا بشريا ؟ ثم يجعله من المتحول كالإمامة ؟ !
4 - إن البديهيات لا تحتاج إلى إيجاب التفقه والاجتهاد أو التقليد ، أو الاحتياط ، على الناس .
( 1 ) مجلة المنهاج : عدد 2 ص 60 مقالة : الأصالة والتجديد . ( * )
- ص 52 -
أما فيما عداها مما يسمى ب " الفكر البشري " فلا معنى أيضا لإيجاب ذلك كله ، ولا داعي له .
5 - وإذا اعترف شخص ما ببديهيات الإسلام ، وأراد أن يأخذ فيما عداها بالقوانين الوضعية ، أو أراد أن تكون له هو وجهات نظر بشرية غير إلهية ، فلماذا يعتبر مبتدعا ، وتعتبر كتبه كتب ضلال ليواجه الحكم القاسي على أهل البدع ، وتحريم كتبه لأنها كتت ضلال ؟ وما هو الفارق الذي جعل الفكر البشري مقبولا هنا ومرفوضا هناك ؟
وقد يقال : إن وجود ما عدا البديهيات - على سبيل الإجمال - يعتبر أمرا بديهيا فهو إلهي أيضا . أو يقال : إن وسائل إنتاج الفكر البشري المقبولة هنا ، غير مقبولة في القوانين الوضعية .
ويجاب : بأنه كيف يتحول الفكر الإلهي - على حد تعبيرهم - إلى فكر بشري ؟ وكيف يعامل الفكر البشري على أنه فكر إلهي من أجل ذلك ؟ ! . فإنه في كلا الموردين ليس إلهيا ، والباء في كلا الموردين واحدة فلماذا تجر تارة ولا تجر أخرى .
6 - لنفترض : أن الناس قد رفضوا الإلتزام بما سمي بالفكر البشري ، فهل يمكن أن يشعروا بأية حساسية أو حماس تجاه ذلك الفكر تدفعهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإلى الجهاد ، وبذل الأنفس ، والأبناء ، والأموال في سبيله ؟
- ص 53 -
وكيف يمكن أن نقنعهم بالتضحية بأنفسهم وأبنائهم ؟ ! من أجل فكر بشري . . . وهل كل جهود وتضحيات الأنبياء والأصفياء والشهداء كانت في سبيل تكريس وجهات نظر بشرية تختلف وتتضارب فيما بينها ؟ ! . . وهذا الفكر البشري " الإسلام " بماذا يمتاز عن أي فكر أو قانون بشري وضعي آخر ، يدعي واضعوه : أنه يكفل للناس سعادتهم ، ويحل لهم مشاكلهم ؟ ! ألا يعني ذلك أن يصبح هذا الإسلام ، الفكر البشري الذي لا روح فيه ، مجرد ترف فكري أو وجهات نظر أشخاص يتداولها الناس في صالوناتهم الفاخرة ، ويتفكهون بها في مكاتبهم وحفلاتهم الساهرة ؟ ! .
7 - إذا كان ما يفهمه العلماء من نصوص وظواهر القرآن والسنة فكرا بشريا ، فلماذا أخفى الله سبحانه " فكره الإلهي " على حد تعبيرهم ؟ وجعله رهينة التكهنات والتخيلات البشرية ؟ وأية فائدة تبقى من بعث الأنبياء ، ومن وضع التشريعات الإلهية ، ما دامت أن هذه التشريعات ستصبح لا أهمية لها ، لأن الميزان حينئذ هو تلك التصورات البشرية عنها وبالتالي ستنقطع الصلة مع الله على هذا الأساس ؟ !
وكيف نوفق بين هذا ، وبين طلب الشارع من الناس أن يأخذوا بظواهر الكتاب والسنة، واحتجاجه بهما على العباد ، ثم
- ص 54 -
المثوبة والعقوبة على أساس ذلك ، مع أنهما - حسب قول هؤلاء - غير قادرين على إثبات الفكر الإلهي ، وإيصال حقائق الدين والشريعة إلى الناس .
وهكذا الحال في سائر الحجج التي سوف يطالبنا الله تعالى بها على أساس الإلتزام بمراعاتها وعدمه . وكيف جاز أن يجعل الله أمرا غير قادر على إثبات المقاصد ، وسيلة لنيل مقاصده ؟ ! إن ذلك لعجيب حقا وأي عجيب ! !
8 - وقبل أن نختم حديثنا نشير إلى عدم صحة مقولة : نسبية الحقيقة ، فإن ذلك من سخف القول . وزائف الكلام لأن الحقيقة هي الحقيقة أخطأها من أخطأ ، وأصابها من أصاب . فلا اختلاف فيها على حد اختلاف درجات الألوان أو درجات الحرارة والبرودة لتكون نسبية .
وأما الاختلاف في كثرة موارد إصابتها وقلتها ، فهو لا يجعل الحقيقة نسبية . . ولو أريد تكريس اصطلاح كهذا ، فإنه لا يفيد هؤلاء شيئا في نظرية الفكر الإلهي والفكر البشري وليصبح كل التراث الفقهي والكلامي فكرا بشريا كما يزعمون .
- ص 55 -
المقصود بمتفجرة بئر العبد : وأبلغنا : أن من المؤاخذات على هذا الكتاب : أنه تحدث بصورة تستبطن التشكيك في أن يكون ذلك البعض هو المقصود بالاغتيال في متفجرة بئر العبد .
ونقول : إن ذكر متفجرة بئر العبد في الكتاب إنما كان في سياق الاعتراض على مقولة : " أنا لا يهمني - انكسر ضلع الزهراء أو ما انكسر " ، فإن كان عدم اهتمامه ناشئا من كون ذلك حدثا تاريخيا قد مضى عليه الزمن ، فإن هذا الحدث الشخصي قد مضى عليه الزمن أيضا . .
ومع ذلك فهناك اهتمام بالتذكير به كل عام ، حيث تصدر في هذه المناسبة تصريحات إذاعية وغيرها ، تضع الناس أمام هذه الفاجعة الأليمة ، ولم نكن نريد بذلك الدخول في الجوانب الشخصية والتفصيلية لهذه المجزرة البشعة ، التي أودت بحياة أكثر من ثمانين شخصا بين طفل وشيخ ، وإمرة وشاب .
ونعود لنؤكد هنا بأننا لن ننجر إلى الدخول في نقاش يحرف الكتاب عن الهدف الديني والعلمي المحض الذي وضع له.
كل الفكر الإسلامي ( فكر بشري ) ما عدا البديهيات
وفي حديث لنا مع بعض المسئولين في المركز الإسلامي الثقافي ، نجده يعترض علينا ، فيقول ما مفاده : إن الحقيقة ليست ملكا لأحد ، فلا يستطيع أحد حتى المجتهد أن يدعي أنه يملك الحقيقة كل الحقيقة . والإسلام باستثناء البديهيات عبارة عن اجتهادات بشرية في فهم النصوص ، فكل التراث الفقهي فكر بشري وليس إلهيا .
وعليه فلا معنى لإصدار أحكام قاسية - كما هو الحال في كتاب مأساة الزهراء ( ع ) - ضد من يخالف في الرأي ، فالحقيقة ليست ملكا لأحد . بل يقول البعض أيضا : إن الحقيقة نسبية ! !
- ص 46 -
ولم نكن نريد التعرض إلى هذا الاعتراض لو لا أننا وجدنا أخيرا هذا البعض قد سجل ذلك بصورة أكثر وضوحا في بعض مؤلفاته . . فإنه بعد أن ذكر : أنه ليس من شك في أن القرآن كتاب الله ، ولكن كلمات القرآن تبقى خاضعة لاجتهاد المفسرين والعلماء .
بعد أن ذكر ذلك في جملة كلام له ، قال : " ونحن نعتقد ، من خلال ذلك ، أن كل ما جاءنا من تراث فقهي ، وكلامي ، وفلسفي ، هو نتاج المجتهدين والفقهاء والفلاسفة والمفكرين ، من خلال معطياتهم الفكرية .
ولا يمثل الحقيقة إلا بمقدار ما نقتنع به من تجسيده للحقيقة ، على أساس ما نملكه من مقاييس الحقيقة ، وبهذا فإننا نعتبر أن كل الفكر الإسلامي - ما عدا الحقائق الإسلامية البديهية - هو فكر بشري ، وليس فكرا إلهيا ، قد يخطئ فيه البشر في ما يفهمونه من كلام الله وكلام رسول الله ( ص ) ، وقد يصيبون .
وعلى هذا الأساس فإننا نعتقد أنه من الضروري جدا أن ننظر إلى التراث المنطلق من اجتهادات المفكرين - أينما كانت مواقع تفكيرهم - نظرة بعيدة عن القداسة في حياتهم ومؤهلاتهم الروحية والعملية في حياة الناس الآخرين فيمن قد يكونون على مستوى المراجع أو الأولياء في تقواهم لله سبحانه وتعالى ، لأن ذلك شئ ومسألة الفكر شئ آخر .
ولذلك فإننا ندعو إلى دراسة
- ص 47 -
التراث دراسة ناقدة ، نعيش فيها شخصيتنا الفكرية ، ونعيش فيها انفتاحنا الفكري الذي عاشه الأقدمون في ما مارسوه من تجربتهم الفكرية " ( 1 ) .
ونقول : إن هذا الاعتراض - وإن كان ظاهر البطلان - ولكنه مع ذلك يعتبر على درجة عالية من الخطورة ، وذلك يجعله أكثر الإعتراضات أهمية وحساسية . . ونحن نذكر هنا بعض المآخذ .
على أن تستكمل هذه المؤاخذات في فرصة أخرى ، يمكن معها التوسع في البيان والمعاني .
فنقول :
1 - إذا كان كل ذلك بشريا ، - باستثناء بديهيات محدودة منه - عبر عنها البعض البعض بالثابت - كالتوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، ومسلمات الشريعة ، مثل : وجوب الصلاة ، والصوم ، والجهاد ، والحج ، والزكاة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتحريم الزنا والسرقة ، والخمر ، والميسر ، والنميمة ، واللواط ، والغيبة وقتل النفس المحرمة ، ونحوها مما لا يخرج عن دائرة العناوين العامة جدا ، دون تفاصيلها ، فإن التفاصيل تدخل في نطاق الاجتهادات الشخصية البشرية ، غير الإلهية وهو ما عبر عنه
( 1 ) راجع : حوارات في الفكر والسياسة والاجتماع : ص 480 . عن مجلة الموسم : عدد 8 سنة 1990 م . ( * )
- ص 48 -
البعض بالمتحول ( 1 ) .
إذا كان كذلك ، فلماذا ندعو غير المسلمين للدخول في الإسلام ، فهل ندعوهم لخصوص هذه البديهيات في عناوينها العامة والغائمة ، واليسيرة جدا ؟ أم ندعوهم إلى وجهات نظر أشخاص ، هم بشر مثلهم ؟ ! .
وحين يقال : إن علينا أن نقدم الإسلام للآخرين باعتباره دينا ، وفكرا ، وقانونا قادرا على حل جميع المشكلات ، وهو النموذج الأمثل للبشر جميعا ، وفي كل مجال ، فأي إسلام نقدم ؟ هل نقدم خصوص البديهيات ؟ أم نقدم الفكر البشري ، ونقول لهم : هذا الفكر البشري هو الإسلام الذي أنزله الله تعالى لعباده ؟ ! وأي فكر من أفكار هؤلاء البشر نقدم للناس ؟
2 - إن كان المقصود بالبديهي هو الذي لم يناقش أحد فيه ، فإن ذلك لا يصح ، وذلك لأن وجود النقاش في أمر من الأمور لا يعني صيرورته فكرا بشريا ، وقد ناقش الكثيرون في وجود الله ، بل أنكروه ، ويناقش غير المسلمين في نبوة النبي ( ص ) ، ولا يعني ذلك صيرورتهما فكرا بشريا ، وتناقش طوائف كثيرة في فكرة الإمامة ، ولا يعني ذلك صيرورتها فكرا بشريا ، ويناقش كثيرون في حقائق دينية وأحكام شرعية ، ولا يعني ذلك أن تصبح تلك الأحكام أو الحقائق فكرا بشريا .
( 1 ) راجع مقالة الأصالة والتجديد في مجلة المنهاج : العدد الثاني : ص 60 . ( * )
- ص 49 -
خذ مثلا على ذلك محاولة البعض تحليل نظر الرجل إلى عورة الرجل ونظر المرأة إلى عورة المرأة ( 1 ) ، مع أن حرمة ذلك من الأمور القطعية ، وهذا الحكم بالحلية من قبل البعض لا يجعل هذا الحكم الثابت - أعني الحرمة - فكرا بشريا .
وإن كان المقصود بالبديهي هو الأمر الذي ، يعرف وجه الحق فيه بمجرد التوجه والإلتفات إليه . . فإن من الواضح : أن الحقيقة الإسلامية وإن لم تكن بديهية في نفسها ، أو لم تكن بديهية عند البعض بهذا المعنى ، ولكنها لما كانت تنال بواسطة الأمارات والحجج والأدلة الشرعية عليها ، فاستخراج الحقيقة من الدليل ، أو تحصيل الإجماع عليها بعد بذل الجهد والعناء الطويل لا يجعلها فكرا بشريا . لمجرد أنها ليست من الأمور البديهية .
وكذا الحال لو لم تكن بديهية عند البعض كمثال النظر إلى العورة المذكور آنفا .
غير أن بعض الأحكام أو بعض الأمور قد لا يكون الدليل عليها حاسما وقاطعا فإذا أخطأتها الأمارات والأدلة التي لسانها لسان الكاشفية ، صار المكلف معذورا في مخالفته للحكم الواقعي أمام الله سبحانه وتعالى ، غير أن العمل وفق القواعد المقررة شرعا يجعل جميع النتائج متصفة بصفة الإسلامية والإلهية ، حتى
( 1 ) راجع : كتاب النكاح : ج 1 ص 66 . ( * )
- ص 50 -
وإن لم يصب الحكم الواقعي فإن صحة العمل لتحصيل العذر أمام الله تعالى من خلال تطبيقه على الوسائل المجعولة والمنصوبة من قبل الشرع هو حكم إلهي وليس فكرا بشريا فقولهم : إن البديهيات فقط هي التي تتصف بكونها فكرا إلهيا لا يصح ( لو صح استعمال كلمة : فكر إلهي ) .
أما حيث يكون التكليف هو العمل بالوظيفة الشرعية ، أو إجراء الأصول في مواردها ، فإن ذلك يكون هو الحكم الإلهي في حق المكلف ، وهو فكر إلهي - على حد تعبير البعض - لا بشري ، لأن الله هو الذي عين له العمل بهذه الوظيفة ، أو بذلك الأصل في أمثال تلك الموارد . فالمورد يتصف بالشرعية والإسلامية والإلهية لكونه من الموارد المقررة إلهيا وإسلاميا لهذه الحالة وللحالات المماثلة .
3 - إننا نفهم بعمق محاولة البعض إظهار التشيع على أنه فكر بشري حيث يقول : " لتكون المسألة السنية والشيعية مسألة مدرستين في فهم الإسلام " ( 1 ) وأن التشيع مجرد وجهة نظر حين يقول : " وقد تكون القضية المطروحة هي أن لا يكون التشيع فيما هو التشيع وجهة نظر * في خط الإسلام حالة معزولة عن الواقع العام للمسلمين ، الخ . . " ( 2 ) .
( 1 ) مجلة المرشد : العددان : 3 و 4 ص 68 . ( 2 ) تأملات في مواقف الإمام الكاظم " ع " : ص 94 . ( * )
- ص 51 -
ثم يجعل الإمامة ، من " المتحول الذي يتحرك في عالم النصوص الخاضعة في توثيقها ومدلولها للاجتهاد ، مما لم يكن صريحا بالمستوى الذي لا مجال لاحتمال الخلاف فيه ، ولم يكن موثوقا بالدرجة التي لا يمكن الشك فيه .
وهذا هو الذي عاش المسلمون الجدال فيه كالخلافة والإمامة ، والحسن والقبح العقليين الخ . . " ( 1 ) .
فإن ذلك يستبطن استبعاد النص على الإمامة ، واعتبار الإمامة بل التشيع كله ، اجتهادا بشريا جاء به الأئمة ( ع ) كأي اجتهاد بشري آخر جاء به الآخرون وليس فكرا إلهيا ، لأن الإمامة ليست من البديهيات عند بعض المسلمين ، منذ وفاة الرسول ( ص ) على حد زعم البعض ، فهي إذن فكر بشري قابل للاجتهاد وليس إلهيا - على حد تعبير البعض - .
ولو كان بديهيا لزم خروجهم عن الإسلام الأمر الذي لا يلتزم هو به . وهل وجود شبهة في أمر بديهي لدى البعض يجعل البديهي وجهة نظر ؟ ويجعله فكرا بشريا ؟ ثم يجعله من المتحول كالإمامة ؟ !
4 - إن البديهيات لا تحتاج إلى إيجاب التفقه والاجتهاد أو التقليد ، أو الاحتياط ، على الناس .
( 1 ) مجلة المنهاج : عدد 2 ص 60 مقالة : الأصالة والتجديد . ( * )
- ص 52 -
أما فيما عداها مما يسمى ب " الفكر البشري " فلا معنى أيضا لإيجاب ذلك كله ، ولا داعي له .
5 - وإذا اعترف شخص ما ببديهيات الإسلام ، وأراد أن يأخذ فيما عداها بالقوانين الوضعية ، أو أراد أن تكون له هو وجهات نظر بشرية غير إلهية ، فلماذا يعتبر مبتدعا ، وتعتبر كتبه كتب ضلال ليواجه الحكم القاسي على أهل البدع ، وتحريم كتبه لأنها كتت ضلال ؟ وما هو الفارق الذي جعل الفكر البشري مقبولا هنا ومرفوضا هناك ؟
وقد يقال : إن وجود ما عدا البديهيات - على سبيل الإجمال - يعتبر أمرا بديهيا فهو إلهي أيضا . أو يقال : إن وسائل إنتاج الفكر البشري المقبولة هنا ، غير مقبولة في القوانين الوضعية .
ويجاب : بأنه كيف يتحول الفكر الإلهي - على حد تعبيرهم - إلى فكر بشري ؟ وكيف يعامل الفكر البشري على أنه فكر إلهي من أجل ذلك ؟ ! . فإنه في كلا الموردين ليس إلهيا ، والباء في كلا الموردين واحدة فلماذا تجر تارة ولا تجر أخرى .
6 - لنفترض : أن الناس قد رفضوا الإلتزام بما سمي بالفكر البشري ، فهل يمكن أن يشعروا بأية حساسية أو حماس تجاه ذلك الفكر تدفعهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإلى الجهاد ، وبذل الأنفس ، والأبناء ، والأموال في سبيله ؟
- ص 53 -
وكيف يمكن أن نقنعهم بالتضحية بأنفسهم وأبنائهم ؟ ! من أجل فكر بشري . . . وهل كل جهود وتضحيات الأنبياء والأصفياء والشهداء كانت في سبيل تكريس وجهات نظر بشرية تختلف وتتضارب فيما بينها ؟ ! . . وهذا الفكر البشري " الإسلام " بماذا يمتاز عن أي فكر أو قانون بشري وضعي آخر ، يدعي واضعوه : أنه يكفل للناس سعادتهم ، ويحل لهم مشاكلهم ؟ ! ألا يعني ذلك أن يصبح هذا الإسلام ، الفكر البشري الذي لا روح فيه ، مجرد ترف فكري أو وجهات نظر أشخاص يتداولها الناس في صالوناتهم الفاخرة ، ويتفكهون بها في مكاتبهم وحفلاتهم الساهرة ؟ ! .
7 - إذا كان ما يفهمه العلماء من نصوص وظواهر القرآن والسنة فكرا بشريا ، فلماذا أخفى الله سبحانه " فكره الإلهي " على حد تعبيرهم ؟ وجعله رهينة التكهنات والتخيلات البشرية ؟ وأية فائدة تبقى من بعث الأنبياء ، ومن وضع التشريعات الإلهية ، ما دامت أن هذه التشريعات ستصبح لا أهمية لها ، لأن الميزان حينئذ هو تلك التصورات البشرية عنها وبالتالي ستنقطع الصلة مع الله على هذا الأساس ؟ !
وكيف نوفق بين هذا ، وبين طلب الشارع من الناس أن يأخذوا بظواهر الكتاب والسنة، واحتجاجه بهما على العباد ، ثم
- ص 54 -
المثوبة والعقوبة على أساس ذلك ، مع أنهما - حسب قول هؤلاء - غير قادرين على إثبات الفكر الإلهي ، وإيصال حقائق الدين والشريعة إلى الناس .
وهكذا الحال في سائر الحجج التي سوف يطالبنا الله تعالى بها على أساس الإلتزام بمراعاتها وعدمه . وكيف جاز أن يجعل الله أمرا غير قادر على إثبات المقاصد ، وسيلة لنيل مقاصده ؟ ! إن ذلك لعجيب حقا وأي عجيب ! !
8 - وقبل أن نختم حديثنا نشير إلى عدم صحة مقولة : نسبية الحقيقة ، فإن ذلك من سخف القول . وزائف الكلام لأن الحقيقة هي الحقيقة أخطأها من أخطأ ، وأصابها من أصاب . فلا اختلاف فيها على حد اختلاف درجات الألوان أو درجات الحرارة والبرودة لتكون نسبية .
وأما الاختلاف في كثرة موارد إصابتها وقلتها ، فهو لا يجعل الحقيقة نسبية . . ولو أريد تكريس اصطلاح كهذا ، فإنه لا يفيد هؤلاء شيئا في نظرية الفكر الإلهي والفكر البشري وليصبح كل التراث الفقهي والكلامي فكرا بشريا كما يزعمون .
- ص 55 -
المقصود بمتفجرة بئر العبد : وأبلغنا : أن من المؤاخذات على هذا الكتاب : أنه تحدث بصورة تستبطن التشكيك في أن يكون ذلك البعض هو المقصود بالاغتيال في متفجرة بئر العبد .
ونقول : إن ذكر متفجرة بئر العبد في الكتاب إنما كان في سياق الاعتراض على مقولة : " أنا لا يهمني - انكسر ضلع الزهراء أو ما انكسر " ، فإن كان عدم اهتمامه ناشئا من كون ذلك حدثا تاريخيا قد مضى عليه الزمن ، فإن هذا الحدث الشخصي قد مضى عليه الزمن أيضا . .
ومع ذلك فهناك اهتمام بالتذكير به كل عام ، حيث تصدر في هذه المناسبة تصريحات إذاعية وغيرها ، تضع الناس أمام هذه الفاجعة الأليمة ، ولم نكن نريد بذلك الدخول في الجوانب الشخصية والتفصيلية لهذه المجزرة البشعة ، التي أودت بحياة أكثر من ثمانين شخصا بين طفل وشيخ ، وإمرة وشاب .
ونعود لنؤكد هنا بأننا لن ننجر إلى الدخول في نقاش يحرف الكتاب عن الهدف الديني والعلمي المحض الذي وضع له.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى