الدرس السابع والثلاثون:في الشكوى إلى الله وإلى الناس
صفحة 1 من اصل 1
الدرس السابع والثلاثون:في الشكوى إلى الله وإلى الناس
(201)
وأن من لا يعرف لأحد الفضل فهو المعجب برأيه (1).
وأن الإعجاب يمنع من الازدياد (2).
وأن عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله (3).
وأنه : من المهلكات (4).
وأنه : لا تخرجن نفسك من حد التقصير في عبادة الله ، فإن الله لا يعبد حق عبادته (5).
وأنه قال الله تعالى : « إن من عبادي من يسألني الشيء من طاعتي لا حبه فأصرف ذلك عنه ؛ لكيلا يعجبه عمله » (6).
وأنه : قل يا رب لا تخرجني من التقصير ، فكل عمل تريد به الله فكن فيه مقصراً عند نفسك (7).
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ معاني الأخبار : ص244 ـ وسائل الشيعة : ج8 ص468 ـ بحار الأنوار : ج72 ، ص316.
2 ـ نهج البلاغة : الحكمة 167 ـ بحار الأنوار : ج72 ، ص316.
3 ـ نهج البلاغة : الحكمة 212 ـ بحار الأنوار : ج72 ، ص317.
4 ـ بحار الأنوار : ج72 ، ص321.
5 ـ الكافي : ج2 ، ص72 ـ وسائل الشيعة : ج1 ، ص71 ، بحار الأنوار : ج72 ، ص322.
6 ـ بحار الأنوار : ج72 ، ص322.
7 ـ الكافي : ج2 ، ص73.
--------------------------------------------------------------------------------
(202)
--------------------------------------------------------------------------------
(203)
الدرس السابع والثلاثون
في الشكوى إلى الله وإلى الناس
الشكوى والشكاية : مصدران من : شكى يشكوا إلى زيد : تظلم إليه ، وأخبره بسوء الحوادث ، فالمخبر شاك وزيد مشكو إليه ، والمخبر عنه مشكو منه ، والإخبار شكاية. والشكوى إن كانت إلى الله تعالى أو إلى عبده المؤمن فهي حسن جميل ، سواء كانت من ظلم الناس أو مكاره الدهر. وأن كانت من الله ومن الحوادث الراجعة إليه تعالى ، فإن كانت إلى المؤمن فلا ذم ، وأن كانت إلى غيره فهي مذمومة. وقد ورد في الكتاب الكريم قول يعقوب عليه السلام : ( إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله ) (1).
وورد في النصوص : أنه : من شكى إلى أخيه فقد شكى إلى الله ، ومن شكى إلى غير أخيه فقد شكى الله (2).
وأن أبغض الكلام إلى الله التحريف ، وهو قول الرجل : إني مجهود ، ومالي ، وما عندي (3).
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ يوسف : 86.
2 ـ وسائل الشيعة : ج2 ، ص632 ـ بحار الأنوار : ج72 ، ص325 وج81 ، ص207.
3 ـ بحار الأنوار : ج72 ، ص325.
--------------------------------------------------------------------------------
(204)
وأنه : إذا ضاق المسلم فلا يشكون ربه وليشك إلى ربه الذي بيده مقاليد الأمور وتدبيرها (1). وأنه : من لم يرض بما قسم الله له من الرزق وبث شكواه ولم يصبر ولم يحتسب لم ترفع له حسنة ، وهو عليه غضبان ، إلا أن يتوب (2).
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ بحار الأنوار : ج72 ، ص326.
2 ـ من لا يحضره الفقيه : ج4 ، ص13 ـ بحار الأنوار : ج72 ، ص326.
--------------------------------------------------------------------------------
(205)
الدرس الثامن والثلاثون
في اليأس من روح الله والأمن من مكره
روح الله تعالى هو : رحمته وفرجه وإحسانه في الدنيا ، وشفاعتة أنبيائه وملائكته ، وغفرانه وجنته في الآخرة. والمكر : أخذه في الدنيا بنحو الإستدراج وغيره ، وعقابه في الآخرة.
ويظهر من النص والفتوى تحريم الأمرين ، وقد عدهما أصحابنا في الفقه من المعاصي الكبيرة ، وظاهرهما كون نفس الحالتين معصية محرمة فتحرم التسبيب لحدوثهما ، ويجب السعي في إزالتهما لو اتفق حصولهما بالتأمل والتفكر في مفاد النصوص الواردة فيه ، في الكتاب والسنة والعقل الحاكم بقبحهما بعد ملاحظة سعة رحمة الله تعالى وشمول عفوه وغفرانه ، وبعد التوجه إلى قدرته وسطوته وما يقتضيه ذنوب عباده ، ولو لم يقدر على التأمل في ذلك فعليه أن يراجع أهله من علماء الدين ورواة الأحاديث وحملة العلوم والمعارف الاسلامية ، وأطباء النفوس من علماء الأخلاق وغيرهم.
--------------------------------------------------------------------------------
(206)
وقد قال تعالى : ( ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) ، (1) وقال : ( فلا تكن من الفانطين ... قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ) (2) ، وقال : ( والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي ) ، (3) وقال : ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ) ، (4) وقال : ( أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ). (5)
وروي : أن الله يبعث المقنطين يوم القيامة مغلّبة وجوههم ، يعني : غلبة السواد على البياض ، فيقال لهم : هؤلاء المقنطون من رحمة الله (6).
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ يوسف : 87.
2 ـ الحجر : 55 ـ 56.
3 ـ العنكبوت : 23.
4 ـ الزمر : 53.
5 ـ الأعراف : 99.
6 ـ بحار الأنوار : ج2 ، ص55 وج72 ، ص338.
--------------------------------------------------------------------------------
(207)
الدرس التاسع والثلاثون
في الدنيا وحبها وذمها
هنا أمور : الأول : الدنيا في اللغه : اسم تفضيل مؤنث ادنى ، تستعمل تارة بمعنى : الأقرب زماناً أو مكاناً ، ويقابله الأبعد ، وأخرى بمعنى : الأرذل والأخس ، ويقابله الخير ، وثالثة بمعنى الأقل ويقابله : الأكثر. والكلمة تطلق بمعانيها على هذه الدنيا في مقابل الآخرة ، فإنها الأقرب وجوداً والأرذل جوهراً قيمةً ، والأقل كماً وكيفاً.
وقد استعمل في الكتاب الكريم في كل من المعاني.
والدنيا المصطلح عليها عند الشرع وأهله لها إطلاقات ثلاثة :
أحدها : الدنيا المستعملة مطلقة في مقابل الآخرة ، وهي : عبارة عن كل ما يرتبط بالانسان وله مساس به قبل موته في هذا العالم مما هو في داخل وجوده : كتصوراته وتصديقاته وأقواله وأفعاله ، ومما هو خارج عنه متأصلاً كان ، كمآكله وملابسه ومسكانه ، أو غير متأصل ، كمناصبه وولاياته ونحوها ، وتقابله الآخرة
--------------------------------------------------------------------------------
(208)
على نحو الاطلاق ، وهي : العالم المحيط به بعد موته.
وثانيها : الدنيا المذمومة ، وهي أخص من الأولى ، فإنها عبارة عنها ، أو عن بعض مصاديقها مع انطباق بعض العناوين عليها وعروض بعض الحالات والإضافات لها كما ستعرف.
وثالثها : الدنيا الممدوحة ، وسيأتي ذكرها في ضمن الروايات. والكلام هنا في القسم الثاني ، وهو : الدنيا التي نطق الكتاب الكريم بذمها وتحقيرها ، وحثت النصوص المتواترة على تركها والإعراض عنها. وهذا القسم يشمل جميع ما يتعلق بالانسان من تنعّماته وانتفاعاته ، وما يسعى في تحصيله من علومه وفنونه ومناصبه ، وما يحصله ويعده لنفسه من أمواله وأولاده وكل ما يملكه ويدخره لينتفع به ، كل ذلك إذا حصلت من الوجه المحرم ، أو كانت مقدمة للحرام ، أو لوحظت بنحو الاصالة في الحياة ، وكانت مبلغ علم الإنسان ومنتهى همته ، فتطلق على الحياة المقرونة بجميع ذلك والمشتملة عليها حياة الدنيا ، وعلى نفس تلك الأمور عرض الحياة وزينتها ومتاعها وحطامها وما أشبهها من التعابير القرآنية.
وظواهر الكتاب والسنة بعضها مسوق لبيان حال اشتغال الإنسان بها وذم حبها ، وتزينها في القلب ورضا الإنسان بها ، وطمأنينته إليها وإيثارها على الآخرة وابتغائها والفرح بها واستحبابها ، أي : ترجيحها على الآخرة والإشراف بها وكونها لعباً ولهواً وتفاخراً وتكاثراً ، وغير ذلك من التعابير الكاشفة عن حالات الإنسان ونفسياته المتعلقة بها والمذمومة في الشرع.
وبعضها مسوق لبيان ما يرجع إلى حال نفس أعراضها وأمتعتها. وأنها حقيرة صغيرة ، وأنها غرارة ملهية فانية زائلة ، وأنها تنفد ولا تبقى ، وأنها متاع قليل ، ونحو ذلك من التعابير ، فمن الطائفة الاولى قوله تعالى : ( زين للناس حب
--------------------------------------------------------------------------------
(209)
الشهوات ) (1) أي : زين نفس شهوات الدنيا ومشتهياتها ، وقال : ( زين للذين كفروا الحياة الدنيا ) (2) أي : نفس الحياة أو ما يقارنها مما عرفت آنفاً ، وقال : ( ومن كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء ) (4) وقال : ( ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها ) (5) وقال : ( ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ) (6) وقال : ( وفرحوا بالحياة الدنيا ) (7) وقال : ( فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا ) ( وقال : ( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ) (9) وقال : ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ) (10).
ومن الطائفة الثانية قوله : ( فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) (11) وقال تعالى في توضيح مشتهيات الدنيا من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث : ( ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) (12) وقال : ( وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ آل عمران : 14.
2 ـ البقرة : 212.
3 ـ آل عمران : 152.
4 ـ الإسراء : 18.
5 ـ الشورى : 20.
6 ـ يونس : 7.
7 ـ رعد : 26.
8 ـ النازعات : 37 ـ 38.
9 ـ النحل : 107.
10 ـ الحديد : 20.
11 ـ التوبة : 38.
12 ـ آل عمران : 14.
--------------------------------------------------------------------------------
(210)
عند الله خير ) (1) وغير ذلك من الآيات.
وورد في النصوص : أن حب الدنيا رأس كل خطيئة (2) ، فالشقاء والشرور والخطايا والمفاسد كلها مطوية تحت عنوان الدنيا ، وذمائم الخصال ورذائلها محوية في صفة حبّها والميل إليها.
وأنه : ما فتح الله على عبد باباً من أمر الدنيا إلا فتح عليه من الحرص مثله. وأن (3) من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همه جعل الله الفقر بين عينيه (4) ( أي : كلما صرف همه وعمره في تحصيلها زاده الله حرصاً وحاجة وفقرا ).
وأن : أبعد ما يكون العبد من الله إذا لم يهمه إلا بطنه وفرجه (5).
وأن : من كثر اشتباكه بالدنيا كان أشد لحسرته عند فراقها (6).
وأن للدنيا شعباً منها : الكبر ، وهو : أول ما عصى الله ، والحرص ، وهو : عصيان آدم وحواء ، والحسد وهو : معصية ابن آدم (7).
وأن الله قال : « جعلت الدنيا ملعونة ، ملعون ما فيها إلا ما كان فيها لي ، وأن عبادي زهدوا في الدنيا بقدر علمهم ، وسائر الناس رغبوا فيها بقدر جهلهم ، وما من أحد عظمها فقرت عينه فيها ولا يحقرها أحد إلا انتفع بها » (.
( قال المجلسي قدس سره : قوله : ( ملعون ما فيها إلا ما كان فيها لي ) هذا معيار كامل
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ القصص : 60.
2 ـ الخصال : ص25 ـ المحجة البيضاء : ج5 ، ص353 ـ الوافي : ج5 ، ص889 ـ بحار الأنوار : ج51 ، ص258 وج78 ، ص54.
3 ـ الكافي : ج2 ، ص319 ـ الوافي : ج5 ، ص896 ـ بحار الأنوار ـ ج73 ، ص16.
4 ـ الكافي : ج2 ، ص319 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص17.
5 ـ الكافي : ج2 ، ص319 ـ وسائل الشيعة : ج11 ، ص318 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص18.
6 ـ الكافي : ج2 ، ص320 ـ الوافي : ج5 ، ص897 ـ بحار الأنوار : ج72 ، ص54.
7 ـ الكافي : ج2 ، ص316 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص19.
8 ـ الكافي : ج2 ، ص317 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص21.
وأن من لا يعرف لأحد الفضل فهو المعجب برأيه (1).
وأن الإعجاب يمنع من الازدياد (2).
وأن عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله (3).
وأنه : من المهلكات (4).
وأنه : لا تخرجن نفسك من حد التقصير في عبادة الله ، فإن الله لا يعبد حق عبادته (5).
وأنه قال الله تعالى : « إن من عبادي من يسألني الشيء من طاعتي لا حبه فأصرف ذلك عنه ؛ لكيلا يعجبه عمله » (6).
وأنه : قل يا رب لا تخرجني من التقصير ، فكل عمل تريد به الله فكن فيه مقصراً عند نفسك (7).
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ معاني الأخبار : ص244 ـ وسائل الشيعة : ج8 ص468 ـ بحار الأنوار : ج72 ، ص316.
2 ـ نهج البلاغة : الحكمة 167 ـ بحار الأنوار : ج72 ، ص316.
3 ـ نهج البلاغة : الحكمة 212 ـ بحار الأنوار : ج72 ، ص317.
4 ـ بحار الأنوار : ج72 ، ص321.
5 ـ الكافي : ج2 ، ص72 ـ وسائل الشيعة : ج1 ، ص71 ، بحار الأنوار : ج72 ، ص322.
6 ـ بحار الأنوار : ج72 ، ص322.
7 ـ الكافي : ج2 ، ص73.
--------------------------------------------------------------------------------
(202)
--------------------------------------------------------------------------------
(203)
الدرس السابع والثلاثون
في الشكوى إلى الله وإلى الناس
الشكوى والشكاية : مصدران من : شكى يشكوا إلى زيد : تظلم إليه ، وأخبره بسوء الحوادث ، فالمخبر شاك وزيد مشكو إليه ، والمخبر عنه مشكو منه ، والإخبار شكاية. والشكوى إن كانت إلى الله تعالى أو إلى عبده المؤمن فهي حسن جميل ، سواء كانت من ظلم الناس أو مكاره الدهر. وأن كانت من الله ومن الحوادث الراجعة إليه تعالى ، فإن كانت إلى المؤمن فلا ذم ، وأن كانت إلى غيره فهي مذمومة. وقد ورد في الكتاب الكريم قول يعقوب عليه السلام : ( إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله ) (1).
وورد في النصوص : أنه : من شكى إلى أخيه فقد شكى إلى الله ، ومن شكى إلى غير أخيه فقد شكى الله (2).
وأن أبغض الكلام إلى الله التحريف ، وهو قول الرجل : إني مجهود ، ومالي ، وما عندي (3).
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ يوسف : 86.
2 ـ وسائل الشيعة : ج2 ، ص632 ـ بحار الأنوار : ج72 ، ص325 وج81 ، ص207.
3 ـ بحار الأنوار : ج72 ، ص325.
--------------------------------------------------------------------------------
(204)
وأنه : إذا ضاق المسلم فلا يشكون ربه وليشك إلى ربه الذي بيده مقاليد الأمور وتدبيرها (1). وأنه : من لم يرض بما قسم الله له من الرزق وبث شكواه ولم يصبر ولم يحتسب لم ترفع له حسنة ، وهو عليه غضبان ، إلا أن يتوب (2).
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ بحار الأنوار : ج72 ، ص326.
2 ـ من لا يحضره الفقيه : ج4 ، ص13 ـ بحار الأنوار : ج72 ، ص326.
--------------------------------------------------------------------------------
(205)
الدرس الثامن والثلاثون
في اليأس من روح الله والأمن من مكره
روح الله تعالى هو : رحمته وفرجه وإحسانه في الدنيا ، وشفاعتة أنبيائه وملائكته ، وغفرانه وجنته في الآخرة. والمكر : أخذه في الدنيا بنحو الإستدراج وغيره ، وعقابه في الآخرة.
ويظهر من النص والفتوى تحريم الأمرين ، وقد عدهما أصحابنا في الفقه من المعاصي الكبيرة ، وظاهرهما كون نفس الحالتين معصية محرمة فتحرم التسبيب لحدوثهما ، ويجب السعي في إزالتهما لو اتفق حصولهما بالتأمل والتفكر في مفاد النصوص الواردة فيه ، في الكتاب والسنة والعقل الحاكم بقبحهما بعد ملاحظة سعة رحمة الله تعالى وشمول عفوه وغفرانه ، وبعد التوجه إلى قدرته وسطوته وما يقتضيه ذنوب عباده ، ولو لم يقدر على التأمل في ذلك فعليه أن يراجع أهله من علماء الدين ورواة الأحاديث وحملة العلوم والمعارف الاسلامية ، وأطباء النفوس من علماء الأخلاق وغيرهم.
--------------------------------------------------------------------------------
(206)
وقد قال تعالى : ( ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) ، (1) وقال : ( فلا تكن من الفانطين ... قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ) (2) ، وقال : ( والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي ) ، (3) وقال : ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ) ، (4) وقال : ( أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ). (5)
وروي : أن الله يبعث المقنطين يوم القيامة مغلّبة وجوههم ، يعني : غلبة السواد على البياض ، فيقال لهم : هؤلاء المقنطون من رحمة الله (6).
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ يوسف : 87.
2 ـ الحجر : 55 ـ 56.
3 ـ العنكبوت : 23.
4 ـ الزمر : 53.
5 ـ الأعراف : 99.
6 ـ بحار الأنوار : ج2 ، ص55 وج72 ، ص338.
--------------------------------------------------------------------------------
(207)
الدرس التاسع والثلاثون
في الدنيا وحبها وذمها
هنا أمور : الأول : الدنيا في اللغه : اسم تفضيل مؤنث ادنى ، تستعمل تارة بمعنى : الأقرب زماناً أو مكاناً ، ويقابله الأبعد ، وأخرى بمعنى : الأرذل والأخس ، ويقابله الخير ، وثالثة بمعنى الأقل ويقابله : الأكثر. والكلمة تطلق بمعانيها على هذه الدنيا في مقابل الآخرة ، فإنها الأقرب وجوداً والأرذل جوهراً قيمةً ، والأقل كماً وكيفاً.
وقد استعمل في الكتاب الكريم في كل من المعاني.
والدنيا المصطلح عليها عند الشرع وأهله لها إطلاقات ثلاثة :
أحدها : الدنيا المستعملة مطلقة في مقابل الآخرة ، وهي : عبارة عن كل ما يرتبط بالانسان وله مساس به قبل موته في هذا العالم مما هو في داخل وجوده : كتصوراته وتصديقاته وأقواله وأفعاله ، ومما هو خارج عنه متأصلاً كان ، كمآكله وملابسه ومسكانه ، أو غير متأصل ، كمناصبه وولاياته ونحوها ، وتقابله الآخرة
--------------------------------------------------------------------------------
(208)
على نحو الاطلاق ، وهي : العالم المحيط به بعد موته.
وثانيها : الدنيا المذمومة ، وهي أخص من الأولى ، فإنها عبارة عنها ، أو عن بعض مصاديقها مع انطباق بعض العناوين عليها وعروض بعض الحالات والإضافات لها كما ستعرف.
وثالثها : الدنيا الممدوحة ، وسيأتي ذكرها في ضمن الروايات. والكلام هنا في القسم الثاني ، وهو : الدنيا التي نطق الكتاب الكريم بذمها وتحقيرها ، وحثت النصوص المتواترة على تركها والإعراض عنها. وهذا القسم يشمل جميع ما يتعلق بالانسان من تنعّماته وانتفاعاته ، وما يسعى في تحصيله من علومه وفنونه ومناصبه ، وما يحصله ويعده لنفسه من أمواله وأولاده وكل ما يملكه ويدخره لينتفع به ، كل ذلك إذا حصلت من الوجه المحرم ، أو كانت مقدمة للحرام ، أو لوحظت بنحو الاصالة في الحياة ، وكانت مبلغ علم الإنسان ومنتهى همته ، فتطلق على الحياة المقرونة بجميع ذلك والمشتملة عليها حياة الدنيا ، وعلى نفس تلك الأمور عرض الحياة وزينتها ومتاعها وحطامها وما أشبهها من التعابير القرآنية.
وظواهر الكتاب والسنة بعضها مسوق لبيان حال اشتغال الإنسان بها وذم حبها ، وتزينها في القلب ورضا الإنسان بها ، وطمأنينته إليها وإيثارها على الآخرة وابتغائها والفرح بها واستحبابها ، أي : ترجيحها على الآخرة والإشراف بها وكونها لعباً ولهواً وتفاخراً وتكاثراً ، وغير ذلك من التعابير الكاشفة عن حالات الإنسان ونفسياته المتعلقة بها والمذمومة في الشرع.
وبعضها مسوق لبيان ما يرجع إلى حال نفس أعراضها وأمتعتها. وأنها حقيرة صغيرة ، وأنها غرارة ملهية فانية زائلة ، وأنها تنفد ولا تبقى ، وأنها متاع قليل ، ونحو ذلك من التعابير ، فمن الطائفة الاولى قوله تعالى : ( زين للناس حب
--------------------------------------------------------------------------------
(209)
الشهوات ) (1) أي : زين نفس شهوات الدنيا ومشتهياتها ، وقال : ( زين للذين كفروا الحياة الدنيا ) (2) أي : نفس الحياة أو ما يقارنها مما عرفت آنفاً ، وقال : ( ومن كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء ) (4) وقال : ( ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها ) (5) وقال : ( ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ) (6) وقال : ( وفرحوا بالحياة الدنيا ) (7) وقال : ( فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا ) ( وقال : ( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ) (9) وقال : ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ) (10).
ومن الطائفة الثانية قوله : ( فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) (11) وقال تعالى في توضيح مشتهيات الدنيا من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث : ( ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) (12) وقال : ( وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ آل عمران : 14.
2 ـ البقرة : 212.
3 ـ آل عمران : 152.
4 ـ الإسراء : 18.
5 ـ الشورى : 20.
6 ـ يونس : 7.
7 ـ رعد : 26.
8 ـ النازعات : 37 ـ 38.
9 ـ النحل : 107.
10 ـ الحديد : 20.
11 ـ التوبة : 38.
12 ـ آل عمران : 14.
--------------------------------------------------------------------------------
(210)
عند الله خير ) (1) وغير ذلك من الآيات.
وورد في النصوص : أن حب الدنيا رأس كل خطيئة (2) ، فالشقاء والشرور والخطايا والمفاسد كلها مطوية تحت عنوان الدنيا ، وذمائم الخصال ورذائلها محوية في صفة حبّها والميل إليها.
وأنه : ما فتح الله على عبد باباً من أمر الدنيا إلا فتح عليه من الحرص مثله. وأن (3) من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همه جعل الله الفقر بين عينيه (4) ( أي : كلما صرف همه وعمره في تحصيلها زاده الله حرصاً وحاجة وفقرا ).
وأن : أبعد ما يكون العبد من الله إذا لم يهمه إلا بطنه وفرجه (5).
وأن : من كثر اشتباكه بالدنيا كان أشد لحسرته عند فراقها (6).
وأن للدنيا شعباً منها : الكبر ، وهو : أول ما عصى الله ، والحرص ، وهو : عصيان آدم وحواء ، والحسد وهو : معصية ابن آدم (7).
وأن الله قال : « جعلت الدنيا ملعونة ، ملعون ما فيها إلا ما كان فيها لي ، وأن عبادي زهدوا في الدنيا بقدر علمهم ، وسائر الناس رغبوا فيها بقدر جهلهم ، وما من أحد عظمها فقرت عينه فيها ولا يحقرها أحد إلا انتفع بها » (.
( قال المجلسي قدس سره : قوله : ( ملعون ما فيها إلا ما كان فيها لي ) هذا معيار كامل
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ القصص : 60.
2 ـ الخصال : ص25 ـ المحجة البيضاء : ج5 ، ص353 ـ الوافي : ج5 ، ص889 ـ بحار الأنوار : ج51 ، ص258 وج78 ، ص54.
3 ـ الكافي : ج2 ، ص319 ـ الوافي : ج5 ، ص896 ـ بحار الأنوار ـ ج73 ، ص16.
4 ـ الكافي : ج2 ، ص319 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص17.
5 ـ الكافي : ج2 ، ص319 ـ وسائل الشيعة : ج11 ، ص318 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص18.
6 ـ الكافي : ج2 ، ص320 ـ الوافي : ج5 ، ص897 ـ بحار الأنوار : ج72 ، ص54.
7 ـ الكافي : ج2 ، ص316 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص19.
8 ـ الكافي : ج2 ، ص317 ـ بحار الأنوار : ج73 ، ص21.
مواضيع مماثلة
» الدرس الخامس والثلاثون:في الرّياء
» الدرس الثالث والثلاثون:في الكفاف في الرزق
» الدرس السابع والعشرون:في التدبّر والتثبت وترك الاستعجال
» الدرس الثاني والثلاثون:في الفقر والفقراء والغنى والأغنياء
» آية الله حجتي والأصلاح بين الناس
» الدرس الثالث والثلاثون:في الكفاف في الرزق
» الدرس السابع والعشرون:في التدبّر والتثبت وترك الاستعجال
» الدرس الثاني والثلاثون:في الفقر والفقراء والغنى والأغنياء
» آية الله حجتي والأصلاح بين الناس
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى