مقدمه
صفحة 1 من اصل 1
مقدمه
- عقائد الامامية - الشيخ محمد رضا المظفر ص 13 :
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم كانت دار النشر المعروفة ب " مطبوعات النجاح بالقاهرة " قد كلفت الدكتور حامد حفني داود أستاذ الأدب العربي بكلية الألسن - القاهرة بوضع مقدمة للكتاب في طبعته الثانية ، وقد تفضل الدكتور في حينه بهذه الكلمة القيامة ، ونحن آثرنا إعادة نشرها في هذه الطبعة لما تمتاز به من واقعية وأصالة .
الناشر . يخطئ كثيرا من يدعي أنه يستطيع أن يقف على عقائد الشيعة الإمامية وعلومهم وآدابهم مما كتبه عنهم الخصوم ، مهما بلغ هؤلاء الخصوم من العلم والإحاطة ، ومهما أحرزوا من الأمانة العلمية في نقل النصوص والتعليق عليها بأسلوب نزيه بعيد عن التعصب الأعمى .
أقول ذلك جازما بصحة ما أدعى بعد أن قضيت ردحا طويلا من الزمن أدرس فيه عقائد الأئمة الاثنى عشر بخاصة وعقائد الشيعة بعامة . فما خرجت من هذه الدراسة الطويلة التي قضيتها متصفحا في كتب المؤرخين والنقاد من علماء أهل السنة بشئ ذي بال .
وما زادني اشتياقي إلى هذه الدراسة وميلي الشديد في الوقوف على دقائقها إلا بعدا عنها وخروجا عما أردت من الوصول إلى حقائقها . . . ذلك لأنها كانت دراسة بتراء أحلت نفسي فيها على كتب الخصوم لهذا المذهب وهو المذهب الذي يمثل شطر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها . ومن ثم اضطررت بحكم ميلي الشديد إلى طلب الحقيقة حيث
- ص 14 -
كانت ، والحكمة حيث وجدت ، والحكمة ضالة المؤمن ، أن أدير دفة دراستي العلمية لمذهب الأئمة الاثني عشر إلى الناحية الأخرى ، تلك هي دراسة هذا المذهب في كتب أربابه وأن أتعرف عقائد القوم مما كتبه شيوخهم والباحثون المحققون من علمائهم وجهابذتهم .
ومن البديهي أن رجال المذهب أشد معرفة لمذهبهم من معرفة الخصوم به ، مهما بلغ أولئك الخصوم من الفصاحة والبلاغة أو أوتوا حظا من اللسن والابانة عما في النفس .
وفضلا عن ذلك فإن " الأمانة العلمية " التي هي من أوائل أسس " المنهج العلمي الحديث " وهو المنهج الذي اخترته وجعلته دستوري في أبحاثي ومؤلفاتي حين أحاول الكشف عن الحقائق المادية والروحية - هذه الأمانة المذكورة تقتضي التثبت التام في نقل النصوص والدراسة الفاحصة لها .
فكيف لباحث بالغا ما بلغ من المهارة العلمية والفراسة التامة في إدراك الحقائق أن يتحقق من صحة النصوص المتعلقة بالشيعة والتشيع في غير مصادرهم ! ! إذن لارتاب في بحثه العلمي ، وكان بحثه على غير أساس متين .
ذلك ما دعاني أن أتوسع في دراسة الشيعة والتشيع في كتب الشيعة أنفسهم وأن أتعرف عقائد القوم نقلا عما كتبوه بأيديهم وانطلقت به ألسنتهم لا زيادة ولا نقص ، حتى لا أقع في الالتباس الذي وقع فيه غيري من المؤرخين والنقاد حين تصدروا للحكم عن الشيعة والتشيع وإن الباحث الذي يريد أن يدرس مجموعة ما من الحقائق في غير مصادرها الأولى ومظانها الأصلية إنما يسلك شططا ويفعل عبثا ، ليس
- ص 15 -
هو من العلم ولا من العلم في شئ .
ومثل هذا ما وقع فيه العلامة " الدكتور أحمد أمين " حين تعرض لمذهب الشيعة في كتبه . فقد حاول هذا العالم أن يجلي للمثقفين بعضا من جوانب ذلك المذهب فورط نفسه في كثير من المباحث الشيعية ، كقوله : إن اليهودية ظهرت في التشيع ،
وقوله : إن النار محرمة على الشيعي إلا قليلا وقوله بتبعيتهم لعبد الله بن سبأ . . . . وغير هذا من المباحث التي ثبت بطلانها وبراءة الشيعة منها ، وتصدى لها علماؤهم بالنقد والتجريح ، وفصل الحديث فيها العلامة محمد الحسين آل كاشف الغطاء في كتابه " أصل الشيعة وأصولها " .
وقد سرني وأنا أتعقب مصادر الشيعة الإمامية وأصولها ومظانها الأولى أن التقي بصديق قديم وناشر عراقي كريم هو السيد مرتضى الرضوي الكشميري وبيده بعضا من عيون كتب الشيعة قام بطبعها في دور الطباعة بالقاهرة .
وكان مما أهداه إلي هذا الناشر الفاضل كتاب " أصل الشيعة وأصولها " الآنف الذكر ، وكتاب " عبد الله بن سبأ " وأجزاء من كتاب " وسائل الشيعة " ، وغير هذا وذاك من عيون كتبهم في العقائد الشيعية والفقه الشيعي .
واليوم قدم إلى السيد مرتضى الكشميري كتابا جديدا للأستاذ محمد رضا المظفر عميد كلية الفقه في النجف الأشرف ، ألفه في عقائد الإمامية .
وطلب مني أن أكتب مقدمة لهذا السفر الجليل وأن أبدي رأيي الصريح حوله بعد أن أكد العزم على طبعه ونشره . وما كدت أتصفح هذا السفر حتى ملك علي إعجابي للذي جمعه فيه مؤلفه بين
- ص 16 -
العرض الدقيق لعقائد الإمامية والأداء الواضح المفصح عما يعنيه الكاتب . فلا يكاد الكتاب يمتعك بما حواه من عقائد الشيعة وتتبعها في صورة رتيبة منظمة وأداء مبوب مفصل حتى يبهرك بجمال عبارته وإشراق ديباجته .
وهو فوق هذا وذاك يجمع بوجه عام بين الإفادة التامة التي يبغيها الباحثون في كتب الشيعة ، والايجاز والتركيز فيما يريد الكاتب أن يعرضه على قرائه .
فالكتاب على هذا النحو الذي يعنيه المؤلف حين يعرض بين يديك عقائد الإمامية يعتبر مصدرا جامعا مانعا ملما بأطراف الموضوع من جميع نواحيه وإن كان في غاية من التركيز والايجاز .
ولست في هذا المقام أعني بما كتبت إطراء الكاتب أو تقريظه بالمدح والثناء البالغ بقدر ما أنا أبغيه من إنصاف الحقيقة وتجليتها لقراء هذا السفر الصغير ، فإن شيئا من ذلك يعتبر في نظري من أوليات المبادئ العلمية التي يهدف إليها الباحثون حين يصورون الحقائق ويضعونها في موضعها اللائق بها .
لذلك فإني أعرض على القارئ الكريم صورا جميلة مما حواه هذا السفر الصغير في حجمه ومبناه الضخم في أفكاره ومعانيه ، هذا السفر الذي شحنه مؤلفه بالأدلة والبراهين وطرزه بالحجج والشواهد من القرآن تارة ومن الحديث أخرى ، ومن أقوال الأئمة الاثنى عشر رضوان الله عليهم تارة أخرى .
هذه الصور الجميلة - التي سأعرضها عليك - لا أشك في أنها ستستوقف القارئ المطلع كما استوقفتني وستستهويه كما استهوتني وإن لم يطالع هذا التقديم الذي كتبته ،
- ص 17 -
فكثيرا ما ترتبط المشاعر بين الباحثين والقراء وتتوحد أهدافهم في الحكم على الأفكار والمعاني لأن الحق واحد لا يتعدد ما دام القائلون به والحاكمون عليه يرسلون أحكامهم من زاوية عقولهم قبل قلوبهم ، وأفئدتهم قبل أهوائهم ، وما داموا ينصفون ولا يتعصبون .
ومن هذه الصور التي تستوقف القارئ مسألة القول ب " الاجتهاد " عند الإمامية . فإن الصورة المتوارثة عن جهابذة أهل السنة أن الاجتهاد قفل بابه بأئمة الفقه الأربعة : أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وابن حنبل . هذا إذا عنينا الاجتهاد المطلق .
أما ما حاوله الفقهاء بعد هؤلاء من اجتهاد لا يعدو أن يكون اجتهادا في المذهب أو اجتهادا جزئيا في الفروع .
وأن هذا ونحوه لا يكاد يتجاوز عند أهل السنة القرن الرابع بحال من الأحوال أما ما جاء عن الغزالي في القرن الخامس ، وأبو طاهر السلفي في القرن السادس ، وعز الدين بن عبد السلام وابن دقيق العيد في القرن السابع ، وتقي الدين السبكي والمبتدع ( 1 ) ابن تيمية في القرن الثامن ، والعلامة جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي في القرن التاسع . .
فإن هذا ونحوه لا يتجاوز - في نظر المنهج العلمي الحديث - باب الفتوى ولا يدخل في شئ من الاجتهاد ، وهو القدر الذي أوضحناه في كتابنا " تاريخ التشريع الاسلامي في مصر " .
* هامش *
(1) ذهب كثير من علماء السنة إلى القول بابتداعه أما الصوفية فإنهم أجمعوا على ذلك . وقد كانت بين الإمام تقي الدين السبكي وابن تيمية مساجلات في نواح كثيرة من الفقه والعقيدة أنظر كتابنا : " تاريخ التشريع الاسلامي في مصر " . ( * )
- ص 158 -
أما علماء الشيعة الإمامية فإنهم يبيحون لأنفسهم الاجتهاد في جميع صوره التي حدثناك عنها - ويصرون عليه كل الاصرار ولا يقفلون بابه دون علمائهم في أي قرن من القرون حتى يومنا هذا .
وأكثر من ذلك نراهم يفترضون بل يشترطون وجود " المجتهد المعاصر " بين ظهرانيهم ويوجبون على الشيعة اتباعه رأسا دون من مات من المجتهدين ، ما دام هذا المجتهد المعاصر استمد مقومات اجتهاده - أصولها وفروعها - ممن سلفه من المجتهدين وورثها عن الأئمة كابرا عن كابر .
وليس هذا غاية ما يلفت نظري أو يستهوي فؤادي في قولهم بالاجتهاد . وإنما الجميل والجديد في هذه المسألة أن الاجتهاد على هذا النحو الذي نقرأه عنهم يساير سننن الحياة وتطورها ويجعل النصوص الشرعية حية متحركة ، نامية متطورة ، تنمشى مع نواميس الزمان والمكان ، فلا تجمد ذلك الجمود الممضد الذي يباعد بين الدين والدنيا أو بين العقيدة والتطور العلمي ، وهو الأمر الذي نشاهده في أكثر المذاهب التي تخالفهم .
ولعل ما نلاحظه من كثرة عارمة في مؤلفات الإمامية وتضخم مطرد في مكتبة التشيع راجع - في نظرنا - إلى فتح باب الاجتهاد على مصراعيه .
أما الصورة الثانية التي تلفت أنظار المفكرين وتغريهم إلى تتبع فرائد هذا المذهب وتحملهم على التعمق في مسائله هي مناقشة علماء الشيعة الإمامية مسألة " الحسن " والقبح في الأشياء ، وهل الشئ الحسن حسن بذاته وبحكم طبيعته ، أم هو حسن لأن الله أمر به وأقره لعباده ! ! وكذلك يقولون في الشئ القبيح ، أهو قبيح لذاته وطبيعته التي أودعت فيه ، أم أن القبح جاء إليه من تحريم الله سبحانه
- ص 19 -
وتعالى له ! ! فأنت حين تقرأ هذا وتتبع ما قاله المؤلف عن عقائد الإمامية تلحظ بنفسك قولهم بالرأي الأول في الحسن والقبح . فهما في نظر الشيعة بعامة والإمامية بخاصة جوهريان ذاتيان في الأشياء وليسا آتيين من قبل أمر الله ونهيه ، وذلك نهج يستوقف نظر الكثيرين من الباحثين ويدعوهم إلى الدهشة وإطالة الفكر والتأمل .
أما نحن فلا نجد في ذلك أدنى دهشة أو التباس في الأمر . ذلك أن الشيعة الإمامية كانوا يأخذون في الكثير من مواطن الأحكام الدينية بمنهج العقل بقدر أخذهم بمنهج النقل . وإن رأيهم في الحسن والقبح الذاتيين هو رأي جهابذة المعتزلة .
ويبقى هنا سؤال واحد يستلزم منا أن نجيبك عليه ، هو : هل تأثر الشيعة بالمعتزلة ؟ أم تأثر المعتزلة بالشيعة ؟ فأما جمهور الباحثين فيرون أن الشيعة تأثروا بالمعتزلة في الأخذ بالمنهج العقلي .
ولكني أزعم لك أن المعتزلة هم الذين تأثروا بالشيعة ، وأن التشيع كعقيدة سابق على الاعتزال كعقيدة ، وأن الاعتزال ولد ودرج في أحضان التشيع ، وأن رؤوس الشيعة كانوا أسبق في الوجود من جهابذة المعتزلة .
أزعم لك ذلك ما دمنا نسلم بالحقائق التاريخية ، وما دمنا لا نشك في أن الرعيل الأول من الشيعة أخذوا في الظهور منذ عصر الراشدين وتطوروا في خلافة الإمام علي كرم الله وجهه في صورة لا تقبل الجدل .
وما كاد الإمام يستشهد ظلما وعدوانا وينتقل إلى الدار الآخرة حتى أصبح للشيعة حزب يناهض جميع الأحزاب السياسية والدينية في الإسلام .
- ص 20 -
ومن هنا أستطيع أن أجلي للقارئ المتدبر أن التشيع ليس كما يزعمه المخرفون والسفيانيون من الباحثين مذهبا نقليا محضا أو قائما على الآثار الدينية المشحونة بالخرافات والأوهام والإسرائيليات ، أو مستمدا في مبادئه من عبد الله بن سبأ وغيره من
الشخصيات الخيالية في التاريخ ، بل التشيع - في نظر منهجنا العلمي الحديث - على عكس ما يزعمه الخصوم تماما ، فهو المذهب الاسلامي الأول الذي عنى كل العناية بالمنقول والمعقول جميعا ، واستطاع أن يسلك بين المذاهب الإسلامية طريقا شاملا واسع الآفاق .
ولولا ما امتاز به الشيعة من توفيق بين " المعقول " و " المنقول " لما لمسنا فيهم هذه الروح المتجددة في الاجتهاد وتطوير مسائلهم الفقهية مع الزمان والمكان بما لا يتنافى مع روح الشريعة الإسلامية الخالدة .
ودعني أعرض عليك " صورة ثالثة " قد يخيل إليك أنها تتنافى مع المنهج العقلي الذي حدثناك عنه في الصورة السالفة ، ألا وهي عناية الشيعة بزيارة القبور وزيارة أضرحة الأولياء والأئمة من آل البيت وتعبدهم بجوار مقاماتهم كإقامة الصلوات
المفروضة ونشر مجالس العلم وإحياء ذكرى أئمتهم الاثنى عشر ، فإن شيئا من ذلك في نظر المعاصرين من المسلمين والتجريبيين الآخذين بالعقل والرأي يعتبر أباطيل وخرافات بل هناك من الفرق الإسلامية من يعتبر ذلك كفرا ومروقا من
الدين ولا سيما أتباع أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، واتباع تلميذه التاريخي محمد بن عبد الوهاب النجدي مؤسس المذهب الوهابي ، وغير هؤلاء جماعة من معاصرينا نترفع بالقلم عن ذكرهم .
- ص 21 -
أما سواد أهل السنة وجميع المعتدلين منهم فإنهم بالاجماع يوافقون إخوانهم الشيعة الإمامية في هذه العقيدة ، لأن كلا الفريقين يعتقد أن الأولياء والأئمة وجميع من في الأرض لا ينفعونك بشئ إلا بشئ أراده الله لك ، ولا يضرونك بشئ إلا بشئ أراده
الله لك ، فليس لهم تأثير ولا نفع ولا ضرر إلا بإذن الله ، وعلى هذا الأساس فزيارة قبور هؤلاء الخواص إنما هو من قبيل التأسي بأخلاقهم والاقتداء بمآثرهم الطيبة والتماس العبرة والعظات في إحياء ذكراهم . وذلك مباح عند الفريقين .
وصورة رابعة أخذت بتلابيب تقديري ، بل إعجابي وأنا أطالع كتاب أخي المؤلف ، وأعني بها قدرته في تجلية عقائد الإمامية في أسلوب رتيب يفصح عن تأثر الشيعة بالمنهج العقلي .
وسبق أن ذكرت أن سبب ذلك راجع إلى تعمق الشيعة في العلوم العقلية بقدر يماثل ما رووه عن أئمتهم من النقليات . وهذا أيضا يدلنا دلالة قاطعة على الروابط المتينة التي كانت بين التشيع والاعتزال وبين أعيان الشيعة وأعيان المعتزلة .
وإن من يراجع كتابنا " الصاحب بن عباد " يرى إلى أي حد كان أعيان الشيعة هم أعيان المعتزلة ، وأعيان المعتزلة هم أعيان الشيعة إلا فيما شذ منهم . ولقد بلغت هذه الروابط قمة التأثر المزدوج بين الطائفتين في أواسط القرن الرابع الهجري ،
ووصلت إلى منتهاها في شخصية " الصاحب بن عباد " الذي تولى زعامتي الاعتزال والتشيع في النصف الثاني من ذلك القرن الذي تسنمت فيه الحضارة الإسلامية مكان الذروة . فإذا ما تعرض المؤلف الكريم للحديث عن ( توحيد الصفات ) " ص 14 " في ذات الله تعالى فإنه يذكرنا بعقيدة المعتزلة في القول
- ص 22 -
بتوحيد الصفات ، ومن أجل هذا أطلقوا على أنفسهم أهل التوحيد فالإمامية والمعتزلة يشتركان في القول بأن الصفات هي عين الذات . أي أنه سبحانه بصير بذاته ، سميع بذاته ، قادر بذاته ، وهكذا لا يفرقان بين الذات والصفات ، وأصحاب هذين المذهبين لهم عذرهم في ذلك عندي إذ أن التفريق بين الذات والصفات كثيرا ما يحمل العقول إلى الالتباس ويوقع الأذهان في معنى الاشراك .
وهذا - مما لا شك فيه - من روائع تأملاتهم في التوحيد . وكذلك نلحظ مثل هذه الروابط المتينة بين الإمامية والمعتزلة فيما تعرض له المؤلف من عقائد تتعلق بمعنى " العدل الإلهي " من نحو ( وجوب فعل الجميل ) على الله تعالى ، ونحو ( وجوب ترك القبيح ) منه تعالى .
فإنهما ما قالا بهذه المقالة إلا تحرزا عن نسبة الظلم إليه سبحانه . ومن ثم يتأول الإمامية استشهاد أهل السنة بقوله تعالى " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " ، وهم بحكم هذه العقيدة لا يرتضون قول الإمام أحمد الدردير - أحد أعلام السنة والتصوف في القرن الثاني عشر - حين يقول في خريدته : ومن يقل بفعل الجميل وجبا * على الإله فقد أساء الادبا
ومع هذا فأنا - أيضا - آخذ لهم في ذلك العذر كل العذر للذي تنطوي عليه أفئدتهم من جميل القصد وهو التحرز من نسبة الظلم إليه سبحانه . ولو كان ذلك من قبيل توهم الظلم . والحق أن لكل من الطائفتين : المعتزلة والشيعة الإمامية في جانب وأهل السنة والصوفية في جانب آخر - وجهته في الثناء على الكمال
- ص 23 -
الإلهي ، فالمعتزلة والإمامية يؤثرون الدفاع عن جانب " العدل الإلهي " أما أهل السنة والصوفية وجماعة من السلف الصالح فإنهم يؤثرون جانب الدفاع عن " الحرية الإلهية " أي الحرية المطلقة لله سبحانه ، وهي الحرية التي لا تقيدها قيود ولا
تعلوها قوة أخرى والتي يستشهدون لها بقوله " لا يسأل عما يفعل " . ولكل من الجانبين المتضادين - في نظر المنهج العلمي الحديث - وجهة هو موليها . ويلحق بهذا القدر قول المؤلف في " القضاء والقدر " وهل الانسان مسير أم مخير ؟
أو على حد تعبير الإمامية : هل الانسان مجبر أو مفوض ؟ وهذا المبحث وإن كان شديد الارتباط بفلسفة العدل الإلهي التي شابههم فيها المعتزلة ، إلا أننا نلحظ على الإمامية في هذا المقام أنهم يسلكون مسلكا آخر ، مسلكا وسطا .
فلا يقولون بالجبر المطلق الذي قال به فريق " الجبريين " الملقبين بالجهمية ، كما أنهم لا يقولون بالتفويض المطلق الذي قال به فريق " المفوضين " الملقبين بالقدرية من المعتزلة .
أما عن عدم قولهم بمقالة الجبريين فلأن القول بالجبر ينفي عن الانسان الإرادة والاختيار أصالة ويجعله لعبة في يد الأقدار أو كالريشة في مهب الرياح .
وإذا كان كذلك صار حساب الله له - في عرفهم - عما يرتكبه من خطأ ظلما فاحشا لأنه لا سلطان له حينئذ في اختياره ولا إرادة له تمنعه من الوقوع في ذلك الخطأ . فهم ينكرون هذا الجبر لأنه ينفي عن الله صفة العدل ، وفي هذا يقول الشاعر معبرا عن ذلك : ألقاه في اليم مكتوفا وقال له * إياك إياك أن تبتل بالماء
- ص 24 -
وأما عن تركهم رأي القائلين بالتفويض المطلق والاختيار المطلق فلأنه يجعل المرء في أفعاله وأقواله مستقلا عن إرادة الله وقدرته ، فهو - في نظرهم - رأي المفوضين والقدريين الذين يقولون إن الانسان يخلق أفعال نفسه ، دون تدخل لقدرة الله في هذا الفعل ، وقد أورد بعض نقاد العقائد أحاديث في ذمهم ، منها قوله عليه السلام : " القدرية مجوس هذه الأمة " .
ومن هنا نعلم أن خطأ الجبريين ينصب في نفي صفة العدل عن الباري سبحانه لأنه يحاسب الانسان على أفعال هو موجدها فيه دون تدخل للمخلوق في ذلك .
أما خطأ القدريين فينصب في نفي قدرة الله وسلطانه على مخلوقاته ، وكلاهما متطرف بعيد عن الحقيقة كل البعد . فإذا كان الإمامية يقولون بمقالة الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه : " لا جبر ولا تفويض ولكن أمرا بين أمرين " فإنهم يتفقون مع إخوانهم أعلام السنة كل الاتفاق ، ذلك أن أهل السنة يقولون بمثل مقالتهم ، ويصرحون بأن للانسان جزءا اختياريا ، فهو ليس بالجبر المحض ولا بالخالق لأفعال نفسه .
وأشهر القائلين بهذه المقالة الإمام أبو الحسن الأشعري وقد حاول الإمام فخر الدين الرازي أن يفلسف التوفيق بين مذهب الجبر ومذهب التفويض حتى أثر عنه أنه كان يقول : " الانسان مجبر باطنا مخير ظاهرا " . وهذه مقالة دقيقة لا تخفى على الراسخين في العلم والعارفين بتفاصيل العقائد الإسلامية .
وهناك صورة خامسة نختم بها حديثنا في هذه المقدمة ، هي قول الإمامية في " البداء " ومعناه الظاهر فعل الشئ ثم محوه ، وقد قال
- ص 25 -
به الإمامية في حق الله تعالى حتى أثر عنهم : " ما عبد الله بشئ مثل القول بالبداء " . ولما كان البداء من صفات المخلوقين لأن فعل الشئ ثم محوه يدل على التفكير الطارئ وعلى التصويب بعد الخطأ وعلى العلم بعد الجهل فإن كثيرا من المفكرين
سفهوا عقول الشيعة في نسبة البداء إلى الله سبحانه والشيعة الإمامية براء مما فهمه الناس عن البداء ، إذ المتفق عليه عندهم وعند علماء السنة أن علم الله قديم منزه عن التغيير والتبديل والتفكير الذي هو من صفات المخلوقات ، أما الذي يطرأ عليه التغيير والمحو بعد الإثبات فهو ما في اللوح المحفوظ بدليل قوله تعالى " يمحو الله ما يشاء ويثبت " .
ولنضرب مثالا لذلك يبين معنى البداء عند الإمامية : فلان من الناس كتب عليه الشقاء في مستهل حياته ، وفي سن الأربعين تاب إلى الله فكتب في اللوح المحفوظ من السعداء . فالبداء هنا محو : اسمه من باب الأشقياء في اللوح وكتابته في باب السعداء .
أما ما في علم الله فيشمل جميع تاريخ هذه المسألة من إثبات ومحو بعد التوبة . أي أنه سبق في علم الله أن هذا الشخص سيكون شقيا ثم يصير سعيدا في وقت كذا حين يلهمه التوبة . إن البداء الذي يقول به الإمامية هو قضية الحكم على ظاهر الفعل الإلهي في مخلوقاته بما تتطلبه حكمته .
فهو قول بالظاهر المتراءى لنا ، وإذن فوجه الإشكال في الذين خطأوا الشيعة في قولهم بالبداء إنما جاء من زعمهم أن الشيعة ينسبون البداء إلى علم الله القديم لا إلى ما في اللوح المحفوظ .
- ص 26 -
ولعلك بما قدمته لك من بيان ضاف تكون وقفت معي على ما في عقائد الإمامية من وجاهة في قولهم بالبداء ، وما في تفكيرهم من عمق في الحكم به لأن معناه - في نظري - أن الله سبحانه يطور خلقه وفق مقتضيات البيئة والزمان اللذين خلقهما وأودع
فيهما سر التأثير على خلقه - ولو ظاهرا - إن القول بالبداء هو المقالة الوحيدة التي نستطيع بهديها أن نفسر لك سر الناسخ والمنسوخ في القرآن ، كالحكمة فيما ورد من آيات تحريم الحمر ، وكيف تدرج ذلك التحريم في صورة مراحل ليعالج سبحانه
بذلك اعوجاج النفس البشرية ويخلصها من قيود العادة المستحكمة شيئا فشيئا حتى يتحقق لهذه النفس صلاحها ، ولو حرمها مرة واحدة لكان في ذلك ما فيه من مشقة على النفس ! فذلك هو اعتقاد الإمامية في البداء .
ويسرني أن أنوه في هذا المقام ما أزمع القيام به من تقريب بين المذاهب الإسلامية في كتاب مفرد أرجو بتوفيق من الله أن أوضح فيه إلى أى حد تنفق هذه المذاهب في الجوهر والأهداف وإن اختلفت في المظهر والطرائق .
وبعد فإني أهنئ الأستاذ المؤلف فيما وفق فيه من الجمع بين المنقول والمعقول في عرض عقائد الإمامية ، وفيما أتحف به قراء العربية من ثقافات عقيدية عن الإمامية جمع فيها بين الاحتجاج للرأي والإجادة في الأداء .
وفي هذا القدر كفاية لمن أوتي حظا من الإنصاف والتأمل . دكتور حامد حفني داود أستاذ الأدب العربي بكلية الألسن والمشرف على الدراسات الإسلامية بجامعة " عليكرة " بالهند القاهرة في 17 / 6 / 1381 ه 25 / 11 / 1961 م
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى