جرأة الجاحظ
صفحة 1 من اصل 1
جرأة الجاحظ
مأساة الزهراء عليها السلام ج 1 - العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي - ص 253
جرأة الجاحظ :
وما أبعد ما بين هذا الرجل الذي يختار خصوص الحديث الذي ظهرت فيه لمحات التحوير ، والتزوير ، بادعاء رضى الزهراء عليها السلام عن الذين جاؤا لاسترضائها ، رغم تكذيب كل الشواهد الواقعية والتاريخية والحديثية له ، وبين ذلك الرجل الآخر المعروف بانحرافه عن علي ، ثم باهتمامه بنقض فضائله عليه السلام ، وتأييد مناوئيه ، وهو الكتاب والأديب الذائع الصيت ، عمرو بن بحر
- ص 254 -
الجاحظ . . الذي يقول في رسالته المعروفة ب " العباسية " - حسبما نقله عنه الشيخ الطوسي رحمه الله : " فلما منعها ميراثها وبخسها حقها ، واعتدى عليها ، وجنح في أمرها ، وعاينت الهضم وأيست من النزوع ووجدت مس الضعف وقلة الناصر ، قالت : والله لأدعون الله عليك . قال : والله لأدعون الله لك . قالت : والله لا أكلمك أبدا . قال : والله لا أهجرك أبدا . فإن يكن ترك النكير منهم على أبي بكر دليلا على صواب منعها ، إن في ترك النكير على فاطمة عليها السلام دليلا على صواب طلبها .
وأدنى ما كان يجب عليهم في ذلك : تعريفها ما جهلت ، وتذكيرها ما نسيت ، وصرفها عن الخطأ ، ورفع قدرها عن البذاء وأن تقول هجرا أو تجور عادلا وتقطع واصلا . فإذا لم تجدهم أنكروا على الخصمين جميعا ، فقد تكافأت الأمور واستوت الأسباب ، والرجوع إلى أصل حكم الله في المواريث أولى بنا وبكم وأوجب علينا وعليكم . ثم قال : فإن قالوا : فكيف يظن بأبي بكر ظلمها والتعدي عليها وكلما ازدادت فاطمة عليها السلام عليه غلظة ازداد لها لينا ورقة ، حيث تقول : " والله لا أكلمك أبدا " . فيقول : " والله لا أهجرك أبدا " .
- ص 255 -
ثم تقول : " والله لأدعون الله عليك " . فيقول : " والله لأدعون الله لك " ( 1 ) .
ثم يتحمل منها هذا القول الغليظ والكلام الشديد في دار الخلافة ، وبحضرة قريش والصحابة ، مع حاجة الخلافة إلى البهاء والتنزيه ، وما يجب لها من الرفعة والهيبة .
ثم لم يمنعه ذلك أن قال - معتذرا أو متقربا كلام المعظم لحقها المكبر لمقامها الصائن لوجهها المتحنن عليها - : فما أحد أعز علي منك فقرا ، ولا أحب إلي منك غنى ، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : " إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة " .
قيل لهم : ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم ، والسلامة من الجور ، وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر - إذا كان أريبا وللخصومة معتادا - أن يظهر كلام المظلوم ، وذلة المنتصف ، وحدب الوامق ، ومقة المحق ( 2 ) " انتهى كلام الجاحظ .
( 1 ) راجع : شرح نهج البلاغة للمعتزلي : ج 16 ص 214 ، وتلخيص الشافي : ج 3 ص 152 وغير ذلك .
( 2 ) تلخيص الشافي ج 3 ص 152 و 153 . عن العباسية للجاحظ . وقال المعلق ص 151 : إن كتاب العباسية قد طبع ضمن رسائل جمعها وحققها وشرحها الأستاذ حسن السندوبي ، وأسماها " رسائل الجاحظ " ورقم هذه الرسالة ( 12 ) وقد طبعت في مطبعة الرحمانية بمصر سنة 1352 . وذكر هذه الفقرات أيضا السيد القزويني في كتابه : فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد ص 420 عن رسائل الجاحظ ص 300 - 303 . ( * )
- ص 256 -
دلالة حرجة :
وهكذا يتضح : أن الزهراء عليها السلام لم تكن تعرف لأبي بكر إمامة ولا تعترف له بتولية ، ما دام أنها قد ماتت وهي غاضبة عليه وعلى صاحبه ، مهاجرة لهما ، وقد منعتهما من حضور جنازتها ، بل ومن معرفة قبرها أيضا .
ولا يمكن أن تكون الزهراء المعصومة المطهرة بآية التطهير ، والتي يغضب الله ورسوله لغضبها ، قد ماتت ميتة جاهلية ، وفق ما جاء في الحديث الشريف : " من مات ولم يعرف إمام زمانه - أو ليس في عنقه بيعة - ، فقد مات ميتة جاهلية " ( 1 ) .
قال العلامة المحقق الخواجوئي المازندراني : " إعلم أن المليين من المسلمين مع اختلاف مذاهبهم اتفقوا على صحة ما نقل عن النبي ( ص ) ، وهو قوله : " من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة
( 1 ) راجع ألفاظ الحديث في : " الغدير : ج 1 ، ص 390 ، عن التفتازاني في شرح المقاصد : ج 2 ، ص 275 ، وكنز الفوائد للكراجكي : ص 151 ، والمناقب لابن شهر آشوب : ج 3 ، ص 304 ، ومجمع الزوائد : ج 5 ، ص 224 و 225 و 219 و 218 ، ومسند أحمد : ج 4 ، ص 96 و ج 3 ص 446 ، والبحار ج 23 ، ص 92 و 88 و 80 ، و 89 وفي هوامشه عن الاختصاص : 269 ، وعن إكمال الدين : ص 230 و 231 ، ومنتخب الأثر : ص 15 ، عن الجمع بين الصحيحين والحاكم وكشف الغطاء : ص 8 ، وشرح نهج البلاغة : ج 13 ص 242 عن الإسكافي في نقض العثمانية ومنار الهدى للشيخ علي البحراني : ص 82 / 83 والمحلى : ج 1 ص 46 ، وصحيح البخاري كتاب الفتن ، باب سترون بعدي أمورا تنكرونها ، وصحيح مسلم ، كتاب الإمارة ، باب الأمر بلزوم الجماعة : ج 4 ص 517 ط دار الشعب . ( * )
- ص 257 -
جاهلية " ( 1 ) .
إذن فلا وقع للمقولة التي أطلقها البعض : إن هذا الحديث ليس فوق مستوى النقد . والتي يلزم منها إما مخالفتها ( ع ) لما جاء عن النبي ( ص ) أو أنه قد كان لها إمام آخر غير أبي بكر فمن هو يا ترى ؟ وهل يظن أنه غير علي ( ع ).
وهل يظن الظان أن الزهراء ( ع ) - وهي التي ماتت وليس في عنقها بيعة لأبي بكر - قد ماتت ميتة جاهلية ؟ ملاقاة الزهراء للرجال والحجاب : وبالمناسبة نقول : إن البعض قد استدل على بطلان حديث : خير للمرأة أن لا ترى الرجل ولا الرجل يراها ( 2 ) ، بأن الزهراء عليها السلام ،
( 1 ) الرسائل الاعتقادية ص 403 .
( 2 ) روي هذا الحديث عن النبي ( ص ) وعن الإمام الصادق ( ع ) وعن علي ( ع ) ، فراجع : وسائل الشيعة ج 20 ص 232 و 67 ، ومستدرك الوسائل : ج 14 ص 183 و 289 ، والبحار ج 43 ص 54 و 48 و 84 و ج 100 ص 239 و ج 101 ص 36 ، وإحقاق الحق : ج 9 ص 202 / 203 عن البزار و ج 10 ص 224 و 226 ، عن مصادر كثيرة . وراجع : مجمع الزوائد ج 4 ص 255 وكشف الأستار عن مسند البزار : ج 3 ص 235 ، وفضائل الخمسة من الصحاح الستة : ج 3 ص 153 ، و 154 عن كنز العمال : ج 8 ص 315 . وراجع كتاب الكبائر للذهبي : ص 176 . ودعائم الإسلام : ج 2 ص 124 ، و 215 وإسعاف الراغبين ( مطبوع بهامش نور الأبصار ) : ص 171 / 172 / 191 ، وكشف الغمة : ج 2 ص 92 ، ومكارم الأخلاق ص 233 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 3 ص 119 ، وعوالم العلوم : ج 11 ص 197 ، ومقتل الخوارزمي ج 1 ص 62 ، وحلية الأولياء : ج 2 ص 41 ، ومناقب الإمام علي لابن المغازلي =>
- ص 258 -
- وهي قائلة هذا القول - كانت تلتقي بالرجال ، وتتحدث معهم ، أثناء الأزمة التي واجهتها مع الذين هاجموا بيتها ، وغصبوا فدكا . وقد التقت مع أبي بكر وعمر ، حينما جاءا ليسترضياها ، وتحدثت معهما بشكل طبيعي . .
وكانت عليها السلام تخرج مع من يخرجن مع النبي ( ص ) في غزواته ليقمن بشؤون الحرب .
وكان النبي ( ص ) يستقبل النساء ، ولو صح أنه خير للمرأة أن لا ترى الرجال ، لكان ينبغي أن يجعل ( ص ) حاجزا بينه وبين كل امرأة تأتيه ، ويقول لها : تكلمي من وراء حجاب .
والجواب :
أولا : إن هذا الحديث وإن كان ضعيف السند ، لكن الاستدلال على تكذيبه بما ذكر لا يصح ، لأن التقاءها عليها السلام بالرجال في أيام الأزمة التي واجهتها مع أبي بكر وعمر لا يعني أنها قد كشفت عن وجهها للناظرين ، وحديثها معهم قد يكون من وراء الحجاب ، أو في حالة لا تريهم فيها وجهها . .
وليس المقصود من عدم رؤيتها للرجال ، وعدم رؤيتهم لها : أن لا ترى ولا يرى كل منهم حجم وشكل الطرف الآخر.
=> ص 381 ، وثمة مصادر أخرى ذكرها في هامش كتاب العوالم وراجع : مناقب أمير المؤمنين علي ( ع ) للقاضي محمد بن سليمان الكوفي : ج 2 ص 210 و 211 ، وضياء العالمين ( مخطوط ) : ج 2 ق 3 ص 14 عن المناقب ، والدرة اليتيمة في بعض فضائل السيدة العظيمة : ص 31 ، ودعائم الإسلام : ج 2 ص 214 / 215 . ( * )
- ص 259 -
هذا ، وقد احتمل البعض أن يكون المقصود بهذا الحديث هو بيان مرجوحية اختلاط الرجال بالنساء . كما أن خروجها مع النبي ( ص ) في غزواته ، لا يلازم أن يرى الرجال وجهها أو محاسنها ، وليس ثمة أي دليل على أنها عليها السلام كانت تتولى بنفسها القيام بشؤون الحرب ، وخروجها على هذا النحو مع النبي ( ص ) لا يدل على ما ادعي .
وكذلك الحال بالنسبة لاستقبال النبي ( ص ) للنساء ، ولا يلزم في ذلك أن يجعل حاجزا بينه ( ص ) وبين كل امرأة تأتيه ، ولا أن يجعل لها حجابا لتكلمه من وراء الحجاب ، إذ يكفي أن تتحفظ هي بما تملكه من وسائل الستر ، وتكلمه وهي مكتملة الحجاب ، فإن الكلام مع شخص لا يلازم شيئا مما نهي عنه من التزين والتبرج ، أو الخضوع بالقول .
وثانيا : إنها حينما خطبت ( ع ) في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم قد نيطت دونها ملاءة ، كما تذكر النصوص ( 1 ) .
وثالثا : إن موضوع رجحان عدم رؤية الرجال لها ، وعدم رؤيتها لهم ، لا ينحصر ثبوته بالحديث المذكور ، فهناك أحاديث ونصوص
( 1 ) الاحتجاج : ج 1 ص 254 ، وشرح النهج للمعتزلي : ج 16 ص 211 و 250 ، وبلاغات النساء : ص 24 ، وأعلام النساء : ج 4 ص 116 ، وكشف الغمة : ج 2 ص 106 ، وإحقاق الحق : ج 10 ص 299 ، والشافي للمرتضى : ج 4 ص 69 - 71 . وضياء العالمين ( مخطوط ) : ج 2 ق 3 ص 69 ، وراجع : العوالم : ج 11 ص 468 وشرح الأخبار : ج 3 ص 34 ومقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 77 ، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم : ج 5 ص 105 . ( * )
- ص 260 -
أخرى تثبت ذلك ، ونذكر منها :
1 - ما رواه محمد بن يعقوب ، عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، قال : استأذن ابن أم مكتوم على النبي ( ص ) ، وعنده عائشة وحفصة ، فقال لهما : قوما فادخلا البيت . فقالتا : إنه أعمى . فقال : إن لم يركما فإنكما تريانه ( 1 ) .
2 - وعن أم سلمة قالت : كنت عند رسول الله ( ص ) ، وعنده ميمونة ، فأقبل ابن أم مكتوم ، وذلك بعد أن أمر بالحجاب ، فقال : احتجبا . فقلن : يا رسول الله ، أليس أعمى لا يبصرنا ؟ قال ( ص ) : أفعمياوان أنتما ، ألستما تبصرانه ؟ ! ( 2 ) .
ومن الغرائب استدلال هذا البعض بهذه الرواية على دخول ابن أم مكتوم الأعمى على النبي وهو في مخادع زوجاته الكاشف عن وحدة الحال بينهما ، على حد تعبيره . ثم بناؤه على ذلك صحة نزول سورة عبس في حقه ( ص ) .
وقد أشرنا إلى بطلان هذا القول في الصحيح من سيرة النبي ( ص ) ( 3 )
( 1 ) الوسائل : ج 20 ص 232 ، والكافي : ج 5 ص 534 .
( 2 ) الوسائل : ج 20 ، ص 232 ، وفي هامشه عن مكارم الأخلاق ص 233 ، ومسند أحمد : ج 6 ص 296 ، والجامع الصحيح للترمذي : ج 5 ص 102 ، وسنن أبي داود : ج 4 ص 63 ، والكبائر للذهبي : ص 177 .
( 3 ) وليراجع أيضا : كتاب " عبس وتولى فيمن نزلت ؟ " ط المركز الإسلامي للدراسات سنة 1997 م . ( * )
- ص 261 -
فليراجع .
وإذا كان ابن أم مكتوم بدخوله مرة أو مرتين على رسول الله ( ص ) ، قد أنتج لنا وحدة الحال هذه ، فينبغي أن تتحقق وحدة حال أعمق بكثير بين النبي ( ص ) وبين جل - إن لم يكن كل - من التقى بهم في حياته .
3 - الجعفريات : أخبرنا عبد الله ، أخبرنا محمد ، حدثني موسى ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده جعفر بن محمد ، عن أبيه عليهما السلام : إن فاطمة بنت رسول الله ( ص ) استأذن عليها أعمى فحجبته ، فقال لها النبي ( ص ) : لم حجبته وهو لا يراك ؟ ! فقالت : يا رسول الله إن لم يكن يراني فأنا أراه ، وهو يشم الريح . فقال النبي ( ص ) : أشهد أنك بضعة مني . وفي دعائم الإسلام عن أبي جعفر عليه السلام مثله . وفي نوادر الراوندي : عن موسى بن جعفر مثله ( 1 ) .
4 - وبالإسناد المتقدم ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عليهما السلام : أن فاطمة بنت رسول الله ( ص ) ، دخل عليها علي عليه السلام ، وبه كآبة شديدة ، فسألته عن ذلك فأخبرها : أن النبي ( ص )
( 1 ) مستدرك الوسائل : ج 14 ، ص 289 ، وفي هامشه عن الجعفريات ص 95 ، وعن دعائم الإسلام : ج 2 ص 214 ، وعوالم العلوم ج 11 ص 123 ، وفي هامشه عن نوادر الراوندي : ص 13 ، والبحار : ج 43 ص 91 ، ورواه ابن المغازلي : ص 380 - 381 . ( * )
- ص 262 -
سألهم عن المرأة : متى تكون أدنى من ربها ؟ فلم ندر . فقالت : ارجع إليه فأعلمه : أن أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها . فانطلق فأخبر النبي ( ص ) . فقال : ماذا ؟ من تلقاء نفسك يا علي ؟ فأخبره أن فاطمة عليها السلام أخبرته . فقال : صدقت ، إن فاطمة بضعة مني .
ورواهما السيد فضل الله الراوندي في نوادره بأسناده عنه ( ص ) مثله ( 1 ) .
( 1 ) مستدرك الوسائل : ج 14 ص 182 ، وفي هامشه عن : الجعفريات : 95 وعن نوادر الراوندي : ص 14 ، والبحار : ج 43 ص 92 و ج 100 ص 250 ، وعوالم العلوم : ج 11 ص 123 . ( * )
جرأة الجاحظ :
وما أبعد ما بين هذا الرجل الذي يختار خصوص الحديث الذي ظهرت فيه لمحات التحوير ، والتزوير ، بادعاء رضى الزهراء عليها السلام عن الذين جاؤا لاسترضائها ، رغم تكذيب كل الشواهد الواقعية والتاريخية والحديثية له ، وبين ذلك الرجل الآخر المعروف بانحرافه عن علي ، ثم باهتمامه بنقض فضائله عليه السلام ، وتأييد مناوئيه ، وهو الكتاب والأديب الذائع الصيت ، عمرو بن بحر
- ص 254 -
الجاحظ . . الذي يقول في رسالته المعروفة ب " العباسية " - حسبما نقله عنه الشيخ الطوسي رحمه الله : " فلما منعها ميراثها وبخسها حقها ، واعتدى عليها ، وجنح في أمرها ، وعاينت الهضم وأيست من النزوع ووجدت مس الضعف وقلة الناصر ، قالت : والله لأدعون الله عليك . قال : والله لأدعون الله لك . قالت : والله لا أكلمك أبدا . قال : والله لا أهجرك أبدا . فإن يكن ترك النكير منهم على أبي بكر دليلا على صواب منعها ، إن في ترك النكير على فاطمة عليها السلام دليلا على صواب طلبها .
وأدنى ما كان يجب عليهم في ذلك : تعريفها ما جهلت ، وتذكيرها ما نسيت ، وصرفها عن الخطأ ، ورفع قدرها عن البذاء وأن تقول هجرا أو تجور عادلا وتقطع واصلا . فإذا لم تجدهم أنكروا على الخصمين جميعا ، فقد تكافأت الأمور واستوت الأسباب ، والرجوع إلى أصل حكم الله في المواريث أولى بنا وبكم وأوجب علينا وعليكم . ثم قال : فإن قالوا : فكيف يظن بأبي بكر ظلمها والتعدي عليها وكلما ازدادت فاطمة عليها السلام عليه غلظة ازداد لها لينا ورقة ، حيث تقول : " والله لا أكلمك أبدا " . فيقول : " والله لا أهجرك أبدا " .
- ص 255 -
ثم تقول : " والله لأدعون الله عليك " . فيقول : " والله لأدعون الله لك " ( 1 ) .
ثم يتحمل منها هذا القول الغليظ والكلام الشديد في دار الخلافة ، وبحضرة قريش والصحابة ، مع حاجة الخلافة إلى البهاء والتنزيه ، وما يجب لها من الرفعة والهيبة .
ثم لم يمنعه ذلك أن قال - معتذرا أو متقربا كلام المعظم لحقها المكبر لمقامها الصائن لوجهها المتحنن عليها - : فما أحد أعز علي منك فقرا ، ولا أحب إلي منك غنى ، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : " إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة " .
قيل لهم : ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم ، والسلامة من الجور ، وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر - إذا كان أريبا وللخصومة معتادا - أن يظهر كلام المظلوم ، وذلة المنتصف ، وحدب الوامق ، ومقة المحق ( 2 ) " انتهى كلام الجاحظ .
( 1 ) راجع : شرح نهج البلاغة للمعتزلي : ج 16 ص 214 ، وتلخيص الشافي : ج 3 ص 152 وغير ذلك .
( 2 ) تلخيص الشافي ج 3 ص 152 و 153 . عن العباسية للجاحظ . وقال المعلق ص 151 : إن كتاب العباسية قد طبع ضمن رسائل جمعها وحققها وشرحها الأستاذ حسن السندوبي ، وأسماها " رسائل الجاحظ " ورقم هذه الرسالة ( 12 ) وقد طبعت في مطبعة الرحمانية بمصر سنة 1352 . وذكر هذه الفقرات أيضا السيد القزويني في كتابه : فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد ص 420 عن رسائل الجاحظ ص 300 - 303 . ( * )
- ص 256 -
دلالة حرجة :
وهكذا يتضح : أن الزهراء عليها السلام لم تكن تعرف لأبي بكر إمامة ولا تعترف له بتولية ، ما دام أنها قد ماتت وهي غاضبة عليه وعلى صاحبه ، مهاجرة لهما ، وقد منعتهما من حضور جنازتها ، بل ومن معرفة قبرها أيضا .
ولا يمكن أن تكون الزهراء المعصومة المطهرة بآية التطهير ، والتي يغضب الله ورسوله لغضبها ، قد ماتت ميتة جاهلية ، وفق ما جاء في الحديث الشريف : " من مات ولم يعرف إمام زمانه - أو ليس في عنقه بيعة - ، فقد مات ميتة جاهلية " ( 1 ) .
قال العلامة المحقق الخواجوئي المازندراني : " إعلم أن المليين من المسلمين مع اختلاف مذاهبهم اتفقوا على صحة ما نقل عن النبي ( ص ) ، وهو قوله : " من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة
( 1 ) راجع ألفاظ الحديث في : " الغدير : ج 1 ، ص 390 ، عن التفتازاني في شرح المقاصد : ج 2 ، ص 275 ، وكنز الفوائد للكراجكي : ص 151 ، والمناقب لابن شهر آشوب : ج 3 ، ص 304 ، ومجمع الزوائد : ج 5 ، ص 224 و 225 و 219 و 218 ، ومسند أحمد : ج 4 ، ص 96 و ج 3 ص 446 ، والبحار ج 23 ، ص 92 و 88 و 80 ، و 89 وفي هوامشه عن الاختصاص : 269 ، وعن إكمال الدين : ص 230 و 231 ، ومنتخب الأثر : ص 15 ، عن الجمع بين الصحيحين والحاكم وكشف الغطاء : ص 8 ، وشرح نهج البلاغة : ج 13 ص 242 عن الإسكافي في نقض العثمانية ومنار الهدى للشيخ علي البحراني : ص 82 / 83 والمحلى : ج 1 ص 46 ، وصحيح البخاري كتاب الفتن ، باب سترون بعدي أمورا تنكرونها ، وصحيح مسلم ، كتاب الإمارة ، باب الأمر بلزوم الجماعة : ج 4 ص 517 ط دار الشعب . ( * )
- ص 257 -
جاهلية " ( 1 ) .
إذن فلا وقع للمقولة التي أطلقها البعض : إن هذا الحديث ليس فوق مستوى النقد . والتي يلزم منها إما مخالفتها ( ع ) لما جاء عن النبي ( ص ) أو أنه قد كان لها إمام آخر غير أبي بكر فمن هو يا ترى ؟ وهل يظن أنه غير علي ( ع ).
وهل يظن الظان أن الزهراء ( ع ) - وهي التي ماتت وليس في عنقها بيعة لأبي بكر - قد ماتت ميتة جاهلية ؟ ملاقاة الزهراء للرجال والحجاب : وبالمناسبة نقول : إن البعض قد استدل على بطلان حديث : خير للمرأة أن لا ترى الرجل ولا الرجل يراها ( 2 ) ، بأن الزهراء عليها السلام ،
( 1 ) الرسائل الاعتقادية ص 403 .
( 2 ) روي هذا الحديث عن النبي ( ص ) وعن الإمام الصادق ( ع ) وعن علي ( ع ) ، فراجع : وسائل الشيعة ج 20 ص 232 و 67 ، ومستدرك الوسائل : ج 14 ص 183 و 289 ، والبحار ج 43 ص 54 و 48 و 84 و ج 100 ص 239 و ج 101 ص 36 ، وإحقاق الحق : ج 9 ص 202 / 203 عن البزار و ج 10 ص 224 و 226 ، عن مصادر كثيرة . وراجع : مجمع الزوائد ج 4 ص 255 وكشف الأستار عن مسند البزار : ج 3 ص 235 ، وفضائل الخمسة من الصحاح الستة : ج 3 ص 153 ، و 154 عن كنز العمال : ج 8 ص 315 . وراجع كتاب الكبائر للذهبي : ص 176 . ودعائم الإسلام : ج 2 ص 124 ، و 215 وإسعاف الراغبين ( مطبوع بهامش نور الأبصار ) : ص 171 / 172 / 191 ، وكشف الغمة : ج 2 ص 92 ، ومكارم الأخلاق ص 233 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 3 ص 119 ، وعوالم العلوم : ج 11 ص 197 ، ومقتل الخوارزمي ج 1 ص 62 ، وحلية الأولياء : ج 2 ص 41 ، ومناقب الإمام علي لابن المغازلي =>
- ص 258 -
- وهي قائلة هذا القول - كانت تلتقي بالرجال ، وتتحدث معهم ، أثناء الأزمة التي واجهتها مع الذين هاجموا بيتها ، وغصبوا فدكا . وقد التقت مع أبي بكر وعمر ، حينما جاءا ليسترضياها ، وتحدثت معهما بشكل طبيعي . .
وكانت عليها السلام تخرج مع من يخرجن مع النبي ( ص ) في غزواته ليقمن بشؤون الحرب .
وكان النبي ( ص ) يستقبل النساء ، ولو صح أنه خير للمرأة أن لا ترى الرجال ، لكان ينبغي أن يجعل ( ص ) حاجزا بينه وبين كل امرأة تأتيه ، ويقول لها : تكلمي من وراء حجاب .
والجواب :
أولا : إن هذا الحديث وإن كان ضعيف السند ، لكن الاستدلال على تكذيبه بما ذكر لا يصح ، لأن التقاءها عليها السلام بالرجال في أيام الأزمة التي واجهتها مع أبي بكر وعمر لا يعني أنها قد كشفت عن وجهها للناظرين ، وحديثها معهم قد يكون من وراء الحجاب ، أو في حالة لا تريهم فيها وجهها . .
وليس المقصود من عدم رؤيتها للرجال ، وعدم رؤيتهم لها : أن لا ترى ولا يرى كل منهم حجم وشكل الطرف الآخر.
=> ص 381 ، وثمة مصادر أخرى ذكرها في هامش كتاب العوالم وراجع : مناقب أمير المؤمنين علي ( ع ) للقاضي محمد بن سليمان الكوفي : ج 2 ص 210 و 211 ، وضياء العالمين ( مخطوط ) : ج 2 ق 3 ص 14 عن المناقب ، والدرة اليتيمة في بعض فضائل السيدة العظيمة : ص 31 ، ودعائم الإسلام : ج 2 ص 214 / 215 . ( * )
- ص 259 -
هذا ، وقد احتمل البعض أن يكون المقصود بهذا الحديث هو بيان مرجوحية اختلاط الرجال بالنساء . كما أن خروجها مع النبي ( ص ) في غزواته ، لا يلازم أن يرى الرجال وجهها أو محاسنها ، وليس ثمة أي دليل على أنها عليها السلام كانت تتولى بنفسها القيام بشؤون الحرب ، وخروجها على هذا النحو مع النبي ( ص ) لا يدل على ما ادعي .
وكذلك الحال بالنسبة لاستقبال النبي ( ص ) للنساء ، ولا يلزم في ذلك أن يجعل حاجزا بينه ( ص ) وبين كل امرأة تأتيه ، ولا أن يجعل لها حجابا لتكلمه من وراء الحجاب ، إذ يكفي أن تتحفظ هي بما تملكه من وسائل الستر ، وتكلمه وهي مكتملة الحجاب ، فإن الكلام مع شخص لا يلازم شيئا مما نهي عنه من التزين والتبرج ، أو الخضوع بالقول .
وثانيا : إنها حينما خطبت ( ع ) في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم قد نيطت دونها ملاءة ، كما تذكر النصوص ( 1 ) .
وثالثا : إن موضوع رجحان عدم رؤية الرجال لها ، وعدم رؤيتها لهم ، لا ينحصر ثبوته بالحديث المذكور ، فهناك أحاديث ونصوص
( 1 ) الاحتجاج : ج 1 ص 254 ، وشرح النهج للمعتزلي : ج 16 ص 211 و 250 ، وبلاغات النساء : ص 24 ، وأعلام النساء : ج 4 ص 116 ، وكشف الغمة : ج 2 ص 106 ، وإحقاق الحق : ج 10 ص 299 ، والشافي للمرتضى : ج 4 ص 69 - 71 . وضياء العالمين ( مخطوط ) : ج 2 ق 3 ص 69 ، وراجع : العوالم : ج 11 ص 468 وشرح الأخبار : ج 3 ص 34 ومقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 77 ، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم : ج 5 ص 105 . ( * )
- ص 260 -
أخرى تثبت ذلك ، ونذكر منها :
1 - ما رواه محمد بن يعقوب ، عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، قال : استأذن ابن أم مكتوم على النبي ( ص ) ، وعنده عائشة وحفصة ، فقال لهما : قوما فادخلا البيت . فقالتا : إنه أعمى . فقال : إن لم يركما فإنكما تريانه ( 1 ) .
2 - وعن أم سلمة قالت : كنت عند رسول الله ( ص ) ، وعنده ميمونة ، فأقبل ابن أم مكتوم ، وذلك بعد أن أمر بالحجاب ، فقال : احتجبا . فقلن : يا رسول الله ، أليس أعمى لا يبصرنا ؟ قال ( ص ) : أفعمياوان أنتما ، ألستما تبصرانه ؟ ! ( 2 ) .
ومن الغرائب استدلال هذا البعض بهذه الرواية على دخول ابن أم مكتوم الأعمى على النبي وهو في مخادع زوجاته الكاشف عن وحدة الحال بينهما ، على حد تعبيره . ثم بناؤه على ذلك صحة نزول سورة عبس في حقه ( ص ) .
وقد أشرنا إلى بطلان هذا القول في الصحيح من سيرة النبي ( ص ) ( 3 )
( 1 ) الوسائل : ج 20 ص 232 ، والكافي : ج 5 ص 534 .
( 2 ) الوسائل : ج 20 ، ص 232 ، وفي هامشه عن مكارم الأخلاق ص 233 ، ومسند أحمد : ج 6 ص 296 ، والجامع الصحيح للترمذي : ج 5 ص 102 ، وسنن أبي داود : ج 4 ص 63 ، والكبائر للذهبي : ص 177 .
( 3 ) وليراجع أيضا : كتاب " عبس وتولى فيمن نزلت ؟ " ط المركز الإسلامي للدراسات سنة 1997 م . ( * )
- ص 261 -
فليراجع .
وإذا كان ابن أم مكتوم بدخوله مرة أو مرتين على رسول الله ( ص ) ، قد أنتج لنا وحدة الحال هذه ، فينبغي أن تتحقق وحدة حال أعمق بكثير بين النبي ( ص ) وبين جل - إن لم يكن كل - من التقى بهم في حياته .
3 - الجعفريات : أخبرنا عبد الله ، أخبرنا محمد ، حدثني موسى ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده جعفر بن محمد ، عن أبيه عليهما السلام : إن فاطمة بنت رسول الله ( ص ) استأذن عليها أعمى فحجبته ، فقال لها النبي ( ص ) : لم حجبته وهو لا يراك ؟ ! فقالت : يا رسول الله إن لم يكن يراني فأنا أراه ، وهو يشم الريح . فقال النبي ( ص ) : أشهد أنك بضعة مني . وفي دعائم الإسلام عن أبي جعفر عليه السلام مثله . وفي نوادر الراوندي : عن موسى بن جعفر مثله ( 1 ) .
4 - وبالإسناد المتقدم ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عليهما السلام : أن فاطمة بنت رسول الله ( ص ) ، دخل عليها علي عليه السلام ، وبه كآبة شديدة ، فسألته عن ذلك فأخبرها : أن النبي ( ص )
( 1 ) مستدرك الوسائل : ج 14 ، ص 289 ، وفي هامشه عن الجعفريات ص 95 ، وعن دعائم الإسلام : ج 2 ص 214 ، وعوالم العلوم ج 11 ص 123 ، وفي هامشه عن نوادر الراوندي : ص 13 ، والبحار : ج 43 ص 91 ، ورواه ابن المغازلي : ص 380 - 381 . ( * )
- ص 262 -
سألهم عن المرأة : متى تكون أدنى من ربها ؟ فلم ندر . فقالت : ارجع إليه فأعلمه : أن أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها . فانطلق فأخبر النبي ( ص ) . فقال : ماذا ؟ من تلقاء نفسك يا علي ؟ فأخبره أن فاطمة عليها السلام أخبرته . فقال : صدقت ، إن فاطمة بضعة مني .
ورواهما السيد فضل الله الراوندي في نوادره بأسناده عنه ( ص ) مثله ( 1 ) .
( 1 ) مستدرك الوسائل : ج 14 ص 182 ، وفي هامشه عن : الجعفريات : 95 وعن نوادر الراوندي : ص 14 ، والبحار : ج 43 ص 92 و ج 100 ص 250 ، وعوالم العلوم : ج 11 ص 123 . ( * )
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى